بيروت، 2024.


كُتِبَتْ قصائدُ الديوان عام 2018.
القصائدُ الأصليَّة مُدَوَّنة على دفاتر خاصَّة وقصاصات متفرِّقة،
اختلطت طويلًا بورق الخريف.


السعادة


أن أَتَنَفَّسَ باريس. أن أَمْتَلِئَ مثلَ نبعٍ في مكانِه. أن أُفْرِغَ جيبي وقلبي من المناديل. أن أُفَكِّكَ الحكايةَ التي كادت تُحَطِّمُني كقطار. أن أَلْتَقِطَ لوجهي ووَحْدَتي صُوَرًا كثيرة. أن أَعْثُرَ في كلِّ عَثْرَةٍ على ملاك. أن أقِفَ بشغفِ عشبةٍ تحتَ البرجِ الهائل، وشرفةِ المنزلِ العتيق. أن أُزْهِرَ كما تفعلُ معاطفُ العابرِين. أن أسألَ الضفّةَ الواسعة: كم نسينا؟ أن تدورَ الأرضُ والأحصنةُ الخشبيّةُ بربيعِ سوانا. أن أضحكَ عاليًا عن الجسر، بعينيْنِ خاسرتيْنِ كعُمْرِ عُمَرَ الشريف. أن أتخفّفَ ببداهةِ خريفٍ من التذاكرِ والدفاتر. أن أُهْدى في زرقةِ ساعةٍ عمريَ القديم. أن تُدْمِيَني أغنيةٌ بهَشاشةِ ريشة. أن أكْتُبَ البكاءَ كمَنْ يصفُ زورقًا غريقًا. أن أرسِمَ طفولتي بأجنحةِ مفارق. أن أُفَرِّقَ بينَ الحقائبِ التي تصدَأُ وصناديقِ ذكرياتي. أن أفصِلَ الوردَ عن عطرِ أعدائي. أن أحمِلَ الأزهارَ إلى مدرستي التي تَتَّسِعُ كساحةِ حرب. أن أؤمِنَ بتَكرارِ السِّحْرِ في كأسي. أن أرفَعَ دمعتي بقامةِ عصفور. أن أستعيدَ مدينةَ نفسي. أن أبرأَ من النهاية، كما يبدأُ نهر.​​​​

الملائكة في كلّ مكان


لطالما طالَ رنينُ هاتفٍ مجهولٍ في الليل، على خلفيّةٍ من مطر. هكذا غَفَوْتُ في مَرَّاتٍ لا تُحْصى، فوقَ دموعٍ لم يُرَدَّ عليها.
كمَنْ تُهَدْهِدُهُ أبوابٌ مواربة. كمَنْ بحُطامِ قلبِهِ يُغَنِّي.
لفرطِ الذين أحبُّوني، ذاكرتي عِقْدٌ من الأحجار.
باريسُ وعدُ ربيعٍ على عتبةِ قطار، عَبَقُ الكتابِ نفسِهِ في كافّةِ الفصول. الملائكةُ في كلِّ مكان:
على جدرانِ الأحياءِ الوحيدة. في المقاهي الغائمةِ بوجوهِ الغرباء. عندَ مَفْرِقِ القمرِ العالي، حيثُ كلُّ دربٍ بعُمْرِ سيجارة.
هُنا تحلو الخيانة، بالظلِّ المديدِ والنظر، بالأظفارِ في جُرْحِ الحُبِّ الطريّ، كنَدْبَةٍ في رُكْبَةِ طفلٍ ببنطالٍ قصير.
هُنا حيثُ الذكرياتُ المريرة: وجهُكَ وصوتُكَ وتلكَ الأحضانُ العالقةُ بينَنا، كرسائلَ لم تُفْتَحْ حتّى.
بنصفِ صورةٍ صارَ بوسعي أن أُبْصِرَك، بعيدًا عن هالتي: ضحكتُكَ التي تشبهُ ضربةَ سِكِّين، عيناكَ الخاليتانِ من شهامةِ الشموع. أكانَ كلُّ ما يزيِّنُكَ أحزاني؟
يا لَهَشاشةِ الكلامِ المُعادِ على مَسْمَعِ فأس.
يا لَتعاسةِ ليلٍ حينَ الكأسُ أعلى النوافذ.
أكرهُكَ وأجاهر، كما يصدحُ بأقفاصِهِمِ العُشَّاق.
هي الغابةُ المغروسةُ في كلِّ حُبٍّ وحرب.
هو القوسُ المكسورُ في شَتَّى المفارق.
مَنْ مِنْ نفسِهِ ينجو؟
وفي أيِّ مرآةٍ يبكي وحيدًا تاجرُ السلاح؟
لطالما رَجَّحْتُ العَدْلَ على الرحمةِ في سبيلِ طائر، والجَمالَ على جميعِ الحقائق.
لَكَمْ خذلَتْني أوتادُ السعادة.
كلُّ الدروبِ تُدْميني كوردة، والأرضُ لا تَسَعُ إلّا أماكنَ نسياني​.

ظلّ يطول كحياة


باقاتٌ مِلءَ الشوارع، والشمعُ وَهَداتٌ بينَ الأقدام.
ليست الأقدارُ بالضرورةِ قِصاصًا
لنتأمَّلَ أَنْفُسَنا في المطر.
كلُّ ألمٍ هو الألمُ كلُّه.

بينَنا خيطٌ لا يقطعُهُ كِلانا. خاتَمٌ مُؤَجَّل، وسُتْرَةٌ بزرقةِ السنواتِ الحزينةِ بينَنا.
حكايةٌ بلا حكمة، تلكَ التي أسميتُها الحُبَّ طويلًا، كمَنْ يُنادي على الخلاصِ بغيرِ اسمِه، وتُلَبِّيهِ غِربانٌ وغيوم.

هي باريسُ وأنا جميعُ الغرباء، بوجوهِهِمِ السمراءِ الباسمة، بعيونٍ سوداءَ تلمعُ كدموع.
هي باريسُ دونَ سواها. نافذةٌ منكوبة. مرآتُنا المكسورةُ لتكريسِ الحدودِ بينَ الجراح.
ثمّةَ امرأةٌ تعبرُ الساحةَ مع مظلّتِها. ظلٌّ يطولُ كحياة. قمرٌ قاتمٌ قريبٌ من النهاية.

على خُطى السيِّدِ مارسيل بروست. في رمادِ معطفِهِ الرماديّ. وحدي أبحثُ عن أزمنةٍ لن يَعْثُرَ عليها أحد​​.

مظلّات ساحة الأوبرا


في شروقِ الواجهاتِ طائراتٌ صغيرةٌ تَصْلُحُ لألفِ فضاءٍ إلّا السفر. خطوطٌ كخيوطِ شمسٍ في خيالِ طير، بأحرفٍ عربيّةٍ لها عذوبةُ عيونِنا.
لِواحاتٍ مجهولةٍ من حنينِنا، سرابُ أوطانٍ بتلويحاتٍ واهنةٍ من نخيل.

من يذكرُ الأطفالَ الذينَ كَبِروا بينَ شجرِ رصيفيْن؟

وجوهٌ بهُزالِ معاطفِنا. بلا عبءٍ يُذْكَر، عدا الذكرياتِ التي تتراكمُ في أكياسِ هدايا.

المشهدُ ساحةُ لوحة: المقهى حيثُ تَرَكْنا قلوبَنا. الفندقُ في رُكْنِ دمعة. غرباءُ سوانا تضيئُهُمْ مظلاّت، نحنُ الذينَ بأطلالِنا يسيلُ طَلُّ باريس.​​​

نظرة في النجوم


لا يَذْرِفُ مثلَ هذه السماءِ سوى يائسٌ مُعَلَّقٌ من دمعتِهِ حتّى يَدَيْه. أمّا المنازلُ المتأرجحةُ في الليلِ كنجومٍ قريبة، فبريشةِ فان غوغ الرحيم.
أَرَقٌ من سوادِ النوافذ. شارعٌ بمدى تنهيدة.
قمرٌ هاجِعٌ فوقَ سطحِ بنايةٍ صفراء، تكادُ تكونُ طفولتي، لولا لافتةٌ تساومُ الزمن.
مُتَوَسِّدٌ كومةَ فضاءٍ على الأرض، يقرأُ قلبَهُ في كتاب، المتشرِّدُ الذي تكسوهُ ظالُ عابرِين.
بكِفافِ كَفَّيْه، يجمعُ الأرصفةَ والفصول.
لِمَن تَفْتَحُ أبوابَها أحلامُ الحجرِ على الطريق؟
وكيفَ يَنْغَلِقُ قلبٌ
كمدينةٍ خلفَ واجهةِ الخريف؟
أجملُ ما حَدَثَ لي، كأسوأَ ما حَدَثَ لي.
ثمّةَ صِدْقٌ لا تغفِرُهُ غيوم.
أمجِّدُ الخطأَ بعيونِ طفلٍ مُكَلَّلٍ بالدموع.
كِلاهُما تَنْقُصُهُ ريشةٌ كي يكتملَ وجهي:
الحُبُّ والندم​.

رسالة إلى الغريبة


لا حكمةَ مِنَ الألم، وهذا الذي يَحْفِرُ نفسَهُ حولَ دمعة، حبرٌ عابرٌ في نهري.
نجمةٌ قديمةٌ عندَ النافذة. شجرةٌ تُزْهِرُ تحتَ وطأةِ الثلج. طَلَبٌ مُعَلَّقٌ بضفيرةِ طفلة. نقراتُ ندمٍ على بيانو. لكلِّ إشارةٍ عاشقٌ ينتظر.
ثُمَّ تأتي الغريبة، تمامًا كما في الأغنية.
في سنةٍ من ثلاثينَ شتاءً، في اللحظةِ التي بهَباءِ دهر، وفي يدِها رسالة.

قطعتُ الشوارعَ كمَنْ يُقَطِّعُ شرايينَه، بيقينِ المنتحرِينَ من نهايةِ سطر. بلا رحمةٍ جُرْتُ على كلِّ ما أُحِبّ، بمِطْرَقَةِ قلبي على قلبي.
كيف أشرحُ جُرْحًا؟
مَن يقرأُ المطر؟
يا لَوسعِها، تلكَ المعادلةُ الفاصلةُ بينَ السعادةِ والصواب.

هي القصيدةُ التي انتظرتَها طويلًا،
عن ظلمي وغروري،
عن قسوتي التي ليست سوى هَشاشةِ مرآة.
بعَدْلِ دمعتيْنِ في نظرة، يَسْقُطُ كلٌّ مِنَّا وحيدًا​.

خمسون وسيلة لكتابة كاف


بالسوادِ الذي في كلِّ ألوانِ الندم
بالهُجودِ على الفقدِ كما لو قمرٌ مريض
برزانةِ الحزنِ في هَمْهَمَةِ محمّدٍ عبد الوهاب
بقراءةِ دمعةٍ تحتَ عريشةٍ من الدموع
بباقةِ بنفسجٍ ناحلةٍ على سياجِ هَجْر
بحكايةِ غريقٍ لم يبتلعْ قشّةَ اليُتْم
برسالةٍ لي في لافتةٍ على مَفْرِقِ ليل
بشارعٍ قصيرٍ كشَعْرِ امرأةٍ على وَشْكِ النسيان
بالصمتِ العنيفِ بينَ الأصدقاء
بأقنعةٍ مثقوبةٍ كبكاءِ بحر
بالغربةِ المُلْتَبَسَةِ في مناسباتِ العائلة
بالسفرِ بعيدًا بغريزةِ الغيمِ والسنونو
بكوبٍ باكرٍ من البرتقال
بكؤوسٍ لا تملأُ الحدس
بشَرْخٍ أعمقَ من شجرةِ الوجود
بقامةٍ تخورُ كما تذوبُ بنتُ ثلج
بسِكِّينٍ في ضفيرةٍ من جسديْن
بدُبٍّ قطنيٍّ ببياضِ ضِماد
بالغضبِ الذي ليسَ سوى عتبةٍ على فراغ
بالعنادِ الذي لا يُحَطِّمُ إلّا المرايا
باستنزافِ وردةٍ لا تَنْفُدُ أوراقُها
بأرجوحةٍ مُكَبَّلَةٍ بين هاويتيْن
بعَقِبِ شمعةٍ في متاهةِ نفسي
بأسئلةٍ بلا أجوبةٍ صافية
بإنكارِ دَلْوي في الدمعة، ودوري في المأساة
بالكذبِ على الذاتِ كما لو جمهورٌ من الجلّادين
بالسقوطِ المُدَوِّي لخشبةِ خلاص
بالحانةِ حينًا، وأحيانًا بصاةٍ شبهِ عاريةٍ تحتَ الشمس
بالانكفاءِ على ضعفي بمكابرةِ جبال
بحُضْنِ معطفٍ به أصداءُ حُضْنِك
بشالٍ ملوّنٍ من ذاكرةِ قطار
بما تبقّى من خُطًى وأخطاء
بنَحْرِ الجسرِ بينَ هاتفيْنا
بانتحارٍ متواصلٍ في طَلَقاتِ صُوَر
بلا رأفةٍ على عصفورٍ في يأسي
بكلِّ طريقةٍ لمَحْوِ طريق
بطَرْقِ الجدرانِ على أنَّها أبواب
بصَفْعِ الأبوابِ وكأنَّها وجوه
بطيفِ ابتسامةٍ مواربةٍ بينَنا
بالحنينِ المُفْرَدِ كنصفِ نجاة
باستعطافِ الوقتِ قبلَ أن يسلوَ أحدُنا
بتزويرِ الروزنامةِ كي تَمُرَّ الأيّام
باستعادةِ تفاصيلَ صغيرةٍ كضحكتِكَ لأضحك
بهلالٍ لا يَكْتَمِلُ بعدَما صِرْنا نصفيْن
بيقينِ من كانَ في جيبِهِ الكون
بالشكِّ بكلِّ لحظةٍ من ظلالِنا
بحَبَّةِ الدواءِ التي لها شكلُ قلب
بقلبي الذي على مقاسِ طعنتِكَ مثلَ قميص
بمسيرةٍ كاملةٍ من اليأس، تَكْتَمِلُ الكلمة:
أُحِبُّك،
بالكافِ التي ليست تشبيهًا أو تعليلًا أو استعلاء​.

جملة مفتوحة


في حياةٍ موازية
ما زلتُ أُحِبُّك.

هذا الجُرْحُ جُمْلَةٌ مفتوحة
سَطْرُ قطارٍ لا تَخْتَتِمُهُ نجمة.

عندَ مَفْرِقِ مكتبِ البريد
وجهُ امرأة
أجمَلُ من رسالةِ حُبٍّ أُولى.

كالربيع
يؤلمُني أن أتفتّحَ ثانيةً​​

رباعيّة ما​


ها هي تَحُطُّ كشمسٍ على شرفة.
الحمامةُ التي ليست رسالةً من أحد
الحمامةُ التي ليست رسالةً إلى أحد
الواسعةُ الواسعةُ كعُمْرِ دمعة.

منطق المرآة​


"ذلكَ الذي بحنانيَ أَحْناني
بجاذبيّةِ دمعة،
وجهُهُ إهانةٌ واسعة
في كلِّ صورةٍ وذكرى.

أكرهُهُ بالعمقِ الذي
لرتقِ جُذورِهِ
يَصْلُبُنا العالم.

الأرضُ بينَنا أضيقُ من نظرةِ ندم."

كم آلمَ الملاكَ كلامي.
في أحدَثِ ثيابِه. بَسْمَتُهُ هلالٌ مُعَلَّقٌ فوقَ النهرِ والمنازل، فيما أُحَدِّثُهُ باللونِ الأسود، عن أحقادي الأكثَرِ من رملِ الحكاية، بالحرارةِ نفسِها التي كنتُ بأزهارِها أَرْصِفُ حُبِّي.

كيفَ انْكَسَرَ أمامي بمنطقِ مرآة،
بخوفِ زهرةٍ يابانيّةٍ في آنيةٍ من الخَزَف
تحتَ نِبالِ نجمة​​​.

رسائل زهرة النرجس


في النهرِ السائلِ بسِعَةِ جُرْح
ما حاجةُ الغريبِ إلى وجه؟
ما جدوى الضفاف؟

بعينيْنِ مُغْرَوْرِقَتَيْنِ بالزينةِ والزوارق
أمسحُ ما يؤلمُني من المدينة:
الشارعُ الأعمى الذي يقودُ إلى بيتِك
الغرفةُ الخائنةُ بكافّةِ جدرانِها
الأشجارُ التي تحتَها تلاشَيْنا
كلُّ جسرٍ لم نَقْطَعْهُ
خَشْيَةَ أن نوقِظَ ظلَّ قنديل.

ما من ليلٍ يعادلُ الفراغَ في لوحة.

الندمُ نافذةٌ في غَرَق.
أعمقُ قبورِنا النسيان.

ما دامتِ الينابيعُ كلُّها عذبة
ما دامَ العاشقُ نبيذَ نفسِه
بملامحِ مَنْ تَجْهَشُ الأنهار؟​​

غربة جورج الخامس


يدٌ واحدةٌ لكلِّ وداع
لكنَّ باريسَ كثيرةٌ كوردة.

لِمَن تُراها كلُّ هذه القُفّازاتِ المفقودة
كتلويحاتٍ ضائعةٍ في الطُّرُق؟
وكيفَ تكونُ المدنُ قابلةً للكَسْرِ وكلُّها ناس؟

أثناءَ المشيِ أَشِفُّ وكأنَّني أُشْفى من الأمل.
أشيبُ في الفراغاتِ الغائمةِ بينَ الرخامِ وزخرفاتِ السَّجَّاد.
الشوارعُ المُتشابكةُ بحبرِ الليل
طبعةٌ أُولى من روحي.

في مرآةِ المصعدِ يضيءُ وجهي، وحيدًا وكأنَّهُ الحقيقة.

أنحني بطفولةِ أخطائي.
حقيبتي سوداءُ مُثْقَلَةٌ بالثلج، والعتمةُ المُتعاليةُ بنجومِها، تبتلعُ العربيَّ الذي يكنِسُ دموعَهُ عن خدِّ الخريف.

في الرَّدْهَةِ دِبَبَةٌ من زرقةِ الكريستال،
تماثيلُ شاهقةٌ بهَشاشةِ أزهار.

في القلبِ حسرةٌ على ما ينقُصُ من قلبي.
القمرُ في اكتمال،
قطعةٌ رزينةٌ من زينةٍ عابرة.

على وسادتي كتابٌ بمَغْزى رسالة. ديوانُ شِعْرٍ كما يحلو للحُبِّ أن يرسِمَ وَحْدَتي.
لو بوسعي أن أقذِفَ ماكينةَ القهوةِ والفنجانيْنِ من النافذة! لكنَّ ندمي أعمقُ من الأرق.

يؤلمُني ما أعرفُهُ عن نفسي من تراب،
يؤلمُني أن أشيخَ بأعمارِ مجرّات.

عساها لا تختلطُ الملاعقُ أو المناشف
ولا تَلْمِسُ تعبي ذَرَّةٌ من غُبارِك.

الصِّدْقُ مَرْكَبٌ صغيرٌ لا يَسَعُ سوى نفسَه.
باريسُ أجملُ من نفسِها في الصُّوَر، لكنَّ الحياةَ بضيقِ فندقٍ مقسومٍ على خَصميْن، والجُرْحُ بندقةٌ فارغة​.

في غرفة بودلير


سلالمُ سوداءُ نحوَ السأم.
روحٌ وحذاءٌ على موكيت آسن.
هو ذا معراجُ الغريبِ إلى صَوْمَعَةِ الغيوم،
مصعدُ دمعةٍ بمشنقةِ وجهٍ وجناحيْن.
الخطأ. الخَسارة. الخلاص.
بابٌ أوحدُ لكافّةِ الأكتاف.
ثمّةَ مفتاحٌ جديدٌ للخريف.
السقفُ غلافٌ مُوَشًّى برَشَّةٍ من النجوم،
ذاكرةُ النوافذِ مع سطورِ الرذاذِ تميل.
السريرُ مُسَوَّدَةُ كوابيس.
دفترٌ بلا أسماءَ على طَرَفِ طاولة
هو السُّلوان.
ليسَ المطرُ سوى طفولةٍ راعفةٍ للماء.
الحُبُّ ما يَتَّسِعُ من شرفةٍ ناحلة
لنظرةِ ندم.
لولا صوتُ أُمِّي على ضفّةِ هاتف
لأيقنتُ أنَّني في الجحيم.
مَنِ الذي أطلقَ لقبَ "الليلِ القصيرِ" على قلبِ فنجان؟
مَنِ الذي أرسلَ الأزهارَ الغامضةَ إلى غرفتِنا؟
الأملُ غيمةٌ سامّة
بوحلِ الذينَ أدخلناهُمْ بكلِّ أحذيتِهِم
إلى كَنَفِ دموعِنا.
أينَ نحنُ من الحُبِّ ذي الألفِ طيف؟
أينَ هي أُيقوناتُ قلوبِنا؟
ضحكتُنا الواسعةُ في الصُّوَر؟
أغنياتُنا التي بأوشحةِ صيف؟
قمصانُ ظلالِنا الوادعةِ
كمناديلَ لم يؤلمْها وداع؟
في الماضي المتغيّرِ بألوانِ عيون
في القادمِ الذي يَشْتَرِطُ مغفرتَنا.
نحنُ الذينَ لا رسائلَ لنا في حقيبةِ بودلير،
وملامحُنا تَتَكَسَّرُ كربيعٍ في كرتونة
في مدينةِ السُّعاةِ المُبْتَسِمِين​.

بطولات كرتونيّة


لم تكن غرفتي واسعةً بما يكفي، لأُعَلِّقَ كلَّ دموعي على الجدران.
لكنَّ نافذتي كانت كلوحة، في ألوانِها تتلألأُ مدينة، ويرسِمُ نفسَهُ قمر.

وجهيَ نحوَ السقفِ الذي يعلو
بحُلُمٍ مُحْكَمٍ بينَ جناحيَّ وبيني.
ظهري ورقةُ خريف
على سريرٍ مُفْرَدٍ في زاوية.
الرفوفُ لِكُتُبِ الذين سبقوني
نحوَ الغَرَقِ في السواد.

هل يعرفُ الآباء
كم نتألّمُ وحيدِينَ في رُشْدِ الخطوات؟

على الحائطِ المُلاصقِ لِأَرَقي
بوستر شاهقٌ بزرقةِ الأحلامِ الممنوعة.
أفيشُ فيلمٍ شهير
عن الانكسارِ الأعمق
لزهرةِ الجسدِ في آنيةِ الروح.

على الموكيت السُّكَّريِّ حقيبةُ مدرسةٍ تُثْقِلُها القواميس.
حصّالةٌ بملامحِ حصان،
حصانُ الحكاياتِ الصغيرة.

هُنا غرفتي التي كخندقٍ يفيضُ بغمامِ السجائر،
حياتيَ المُعَبَّأَةُ في علبةِ كرتون
بلا عنوان
وبطوابعَ كثيرةٍ ناقصة​.

على أطراف الدموع


ملعبٌ مُضاءٌ بطُمأنينةِ الثلج.
سورٌ من السَّرْوِ الأزرق، والقمرُ عالٍ،
دمعةٌ لا تُصاد.

في الحُلُمِ أعودُ المكان
ولا أعودُ طفلة،
رُغْمَ حقيبةِ الظهرِ الملوّنةِ بعصافيرِ الغابة
ورسمةِ الكرتون في منتصفِ قميصي.

الوردةُ أصغرُ قليلًا من الجُرْحِ الذي في ذاكرتي.
لا أثرَ للخفافيشِ التي طاردَتْنا خلفَ الكواليس.

هل جَرَفَ المطرُ المبنى الأبيضَ ذا النوافذِ المُتلاحقة
في سطرٍ طويلٍ من الدلافين السوداء؟

الكافيتيريا في ضفّةٍ ناجيةٍ من الحنين.
مظلّةٌ مُدَلَّاةٌ من السقف، بنَواةِ لَمْبَة.
باصٌّ صغيرٌ مصنوعٌ من علبةِ مناديلَ فارغة.
بقايا ماكينةِ القهوةِ القديمة
بعضُ إنسانٍ آليّ
بملامحِ فناجينِنا الورقيّة.

كلُّ هذا الجَمال
جاءَ من بَعْدِنا​.

جرافيتي الليل


كم من الجَمالِ يسيلُ وحيدًا
على مَرْأَى من ملايينِ النجوم
برذاذِ حبرٍ سِرِّيٍّ على جباهِ الشوارع
على انحناءةِ عواميدِ الإنارة
ومصاطبِ الوَحْدَة
على المحطّاتِ المفتوحةِ على خاناتِ الليل
وعلى الخدِّ الخَفِيّ، المُهانِ كوجهِ إنسان،
من أبوابِ الحَمّاماتِ العامّة.

كم هي دموعُ كواليس
هذه التي يَذْرِفُها الساخطونَ على أَنْفُسِهِم
خلفَ دِرْعِ العالم،
على قساوةِ الآباءِ والأدوار
على العشيقاتِ اللواتي بهَشاشةِ أهدابٍ في عاصفة
على ضحكاتِ الأزهارِ في جمجمةِ الأمل
وعلى حُفْنَةِ المصائرِ الخفيفةِ على مفارقِ الربيع.

على الجسرِ الفاصلِ بينَ نهايتيْن، يُلِحُّ على روحي أن أكتبَ جُمَلاً تُثْقِلُ ظلالي، وتُلْصِقُ بِصَمْتي ما ليسَ من صميمِ أغنيتي وبَصْمَتي:
للندمِ ملامحُ وجهِكَ الكريه، مثلًا.
أو: عَمى الحُبِّ أعرفُهُ، لكنَّ تفاهتَك تُفّاحةٌ فاسدة.
أو: أحلُمُ بمحوِ الأرض، خَشْيَةَ أن تجمعَ الشتيتيْن، ولو بالمصادفة.

يَخْطُرُ لي أن أُسَطِّرَ مثلَ هذه اللّافتاتِ على شتاءِ محطّاتي. أن أَحْفُرَ ملائكةً بأجنحةٍ جارحةٍ في الحجر، بسِكِّينِ ​جيب، لا بالطبشورِ الذي تطيّرُهُ نسمة.

لكنَّني سُرْعانَ ما أتَنَبَّهُ إلى النسيانِ الذي يتراكم.
بلا أسماءَ تتلاشى أخطائي.
هكذا أسلو بسلاسةِ جُمْلَةٍ منسيّةٍ من سيمفونيّة، نحوَ حانةٍ حانية. أطلبُ كأسًا وأصمتُ طويلًا، كما تنتصرُ بقعةٌ بالبياض.

بطاقات الأبيض والأسود​


بأحبارِ ليلٍ على ظلال، يطولُ المطر.
يقولُ أشياءَ مُبْهَمَةً مُلْهِمَة:
"في مدينةِ الأبيضِ والأسود، كيفَ نفرّقُ بينَ موتٍ وحنين؟
كيفَ تعلو عن طينِها الطُّرُق
كما لو كانت طائراتٍ ورقيّة؟
كيفَ يئنُّ بيانو رصيف
ونصفُ مفاتيحِهِ مفقود؟
وهل الحُبُّ طفلٌ بطيفِ درّاجة
يحومُ وحيدًا على مدارِ دمعة؟"
إلى غيمةٍ خَفِيَّةٍ في أغنيةٍ أُصْغي.
النظرةُ سَفَرُ نجمةٍ خِلاسيّة.
الكَفُّ خارطة، كنزُها في اليد.
آخِرُ ملوكِ العالم
قمرُ الرابعَ عَشَرَ من تشرين
برأسٍ مقطوع.
كم من الخسائرِ الملوّنةِ تختبئُ بينَ أختامِ الطوابع.
كم كَتَبْت، بخطٍّ مائلٍ كهذا الذي تذْرِفُهُ السماوات، قصائدَ صغيرةً لم يقرَأْها أحد.
الأصابعُ جُذورُ وجوهِنا، نحنُ الذينَ تَلْزَمُنا تلويحةُ شالٍ أخضر، كي نُصَدِّقَ عذابَ الشجر.
لهذه الشوارعِ سطورٌ راسخةٌ في روحي
وكأنَّني أمشي داخلَ نفسي.
لحديقةِ الصمتِ والتماثيلِ العارية
أجنحةٌ وأحجارٌ في غرفةِ قلبي،
ولهذه المنازلِ المُتلألئةِ بزينةِ النهايات
جيرةُ عتباتٍ أُولى على سلالمِ العتاب.
كأنَّما طفولتي نسخةٌ أُخرى عن الطريق،
غيرُ الأزهارِ البنفسجيّةِ المُكَدَّسَةِ بقسوةٍ فوقَ تنهيدة
غيرُ هذا المصيرِ المُتأرجحِ بخفّةِ بَنْدول
بينَ بَسْمَتَيْنِ ونسمة.
ها هي حكاياتي كلُّها على الطاولة: شمعةٌ وإبريقٌ وقناع.
كم تبدو القصصُ ناقصةً دونَ منفضةِ الدموع.
أينَ هو الصِّدْقُ الذي ملأتُ به تلكَ الكلماتِ والكؤوس؟
ومَن يكونُ العاشقانِ الذائبانِ كشمعةٍ تحتَ الرذاذ؟
أحدُنا قاربُ نجاة، الآخرُ غيمةٌ تَغْرَق.
كِلانا كذبةُ الثاني، والخريفُ ورّاقٌ يَخُطُّ البطاقات
بأسماءِ سوانا.
كلُّ الأنهارِ كرحلتي.
النبعُ لا يردِمُ إلّا وَحْدَتَهُ،
والجُرْحُ أعمقُ قليلاً من قبرِ عَلاقاتيَ العابرة​​.

رسالة إلى نفسي


صباحُ الخيرِ أيَّتُها الحياة
يا حياتيَ التي أهديتُها لغرباءَ وغيوم.

صباحُ الخيرِ على سيّارةٍ بيضاءَ من دخانِ السجائر
على أسفلتٍ مرصوفٍ بقلوبِ القُساة
على نهرٍ مُغْرَوْرِقٍ بزوارقِ الأغاني
على عصافيرِ الضواحي التي تتساقَط
عاريةً من نفسِها كما الدموع.

على ضفّةِ المصانعِ الملوّنةِ بأصابعِ الطبشور
على التَّلَّةِ المُبْتَلَّةِ برذاذِ المصابيح
على شارعِ لْوي باسْتور الطويلِ كظلِّ نظرة
على المَفْرِقِ الباسمِ ببَشاشةِ مقهى خلفَ الأشجار
على مقعدي وطاولتي وأوراقِ اليانصيبِ المُبَعْثَرَةِ كخريفٍ باكرٍ من الخسائر


على النادلةِ ذاتِ الوجهِ الواسع
وعُمّالِ الطُّرُقِ السريعة
وملائكةِ محطّةِ البنزين،
على البوّابةِ الصامدةِ بضِلْعِ ريشةٍ في العاصفة
والباصّاتِ المُتراصّةِ في سطرٍ ساكنٍ من المشاوير.

على حديقةِ النَّاسِ والحنين
على خُطى ماري أنطوانيت في فُتاتِ الأخطاء
على العجوزِ التي طاردَتْنا بمكنسةٍ من صراخ
على الدربِ المفروشِ بريشِ قطارات
على الجُذوعِ المُتألّمةِ بصمتِ تماثيل
على المطعمِ الشفيفِ كغيمةٍ عالقةٍ بالأغصان
على العابرِ الذي دارَ بكُرْسِيِّهِ حولَ رمادِ كوكب
كي يشهدَ أكثرَ من غروبٍ في يومٍ وحيد.

صباحُ الخيرِ على المدينةِ المُنَقَّطَةِ كرسالةٍ بالمطر
على البرجِ الأليفِ مثلَ زرافةٍ في كتابِ أطفال
على أسطحِ القِرميدِ الرماديّ
واليمامِ الحزينِ الحزين
على المداخنِ التي ترسِمُ السماءَ بفحمِ أنفاسِها.

صباحُ الخيرِ على زهرةِ عِظامِ شارل بودلير
على الأوركيدةِ المُتَكَلِّفَةِ في جيبِ مارسيل بروست
على الأزرقِ الرزينِ في نظرةِ آرتور رمْبو
على عناوينِ الألمِ المُتلألئةِ في عاصمةِ بول إيلوار
على العُشَّاقِ الناجِينَ من كَعْبِ إديث بياف
على بُحَّةِ الصحراءِ في رصاصاتِ ألبير كامو الزائدة.

صباحُ الخيرِ على العائلةِ السعيدةِ في بُرْهَةِ صورة
على غرفتي المُشْمِسَةِ في كافّةِ الفصول
على سريري الأسودِ كمَرْكَبٍ مُرَكَّبٍ من ألواحِ الأرق
على دفاتري الشاخصةِ بعيونِ دُمًى على رَفّ
على ضحكةِ حبيبي كتلويحةٍ وحيدة
على رصيفٍ مكشوفٍ من ساحةِ الأوبرا.

صباحُ الخيرِ على الحُبِّ الذي مضى دونَما أثر
كنُدْفَةِ ثلجٍ في طاحونةِ السواد،
على العُمْرِ الذي يمضي وحيدًا
في صُوَرٍ وصفحاتٍ مُتَفَرِّقَة
وعَلاقاتٍ وقمصانٍ بالية،
على أقنعةِ الأصدقاءِ القُدامى
على المحطّاتِ القادمةِ من العزلة
على القصصِ المَمْحُوَّةِ الأسماء
كمُلْصَقاتٍ قديمةٍ على غربةِ حقيبةِ سَفَر.

صباحُ الخيرِ على العالمِ المُعَلَّق
كوجهٍ بوجهةِ نظرِ قنديل​​.

أخطاء الخريف​


عبثًا أيَّتُها الثورة
أَرَقْنا أَرَقَنا في الشوارعِ الملوّنة
بالمطرِ والدمِ والدموع.
هذه المدينةُ من طميٍ سقيم
والأُفُقُ سطرٌ من صمتِ المصابيح
تحتَ مِقْصَلَةِ القمر.

لا الأرصفةُ تَذْكُرُ بصمةَ عاشقيْنِ حولَ باقة،
ولا تماثيلُ الملوكِ على أحصنةٍ بلا صهيل
تُوحي بغزارةِ الندم.

على هذا الجسر
واجهتُ غروبي وحدي
كمَنْ يجثو باسمًا في ظلِّ سيّاف.
كم خطوتُ بأهيفِ أجنحتي فوقَ الأسفلت
كي أسامحَ يُتْمَ آبائي.

تساقَطَ ريشٌ
ونَجَت طيور،
وظلّت طفولتي عالقةً بعتمةِ مصعدٍ قديم.

على سلالمِ السَّجَّادِ الأحمر
أعبرُ بينَ عُمْرَيْن.
أتركُ روحي كرسالة.
بالحُبِّ أنحني حتّى جُذوري
بوجهِ جُرْح
بحقائبِ سواي.

أنا الأضدادُ المُجْتَمِعَةُ برعونةِ عصافيرَ حولَ حافّة
الضفّتانِ الموصولتانِ بصرخةِ غريق
الماضي الذي يملأُ منافضَ الأسف
والضِّلْعُ الناقصُ من قفصِ قلبٍ مفتوح.

أنا الشارعُ الذي توقّفَ فجأةً في منتصفِ جُمْلَة،
وأنا العدمُ على قَدَمَيْنِ على طريق.

كم يصعُبُ على أصابعي المبتورة
أن تُرَتِّبَ خاناتِ الخيانة
وتُشيرَ إلى الليلِ والأصدقاء.

كم تأرجحتُ في خلاءِ الفجرِ بلا خيطِ خلاص
وكم كتبتُ ومحوتُ نفسي
على هامشِ حبر
دونَ أن يَكْتَمِلَ نسيان.

لمكتبِ البريدِ بهجةُ حُبٍّ جديدٍ في هذا الزُّقاقِ الغائم،
وللألمِ أسماءُ كثيرةٌ وكأنَّهُ إله.

يُضنينا الأملُ أكثرَ من أيِّ يأس
وكأنَّنا لا نَنْكَسِرُ إلّا فوقَ ضحكتِنا.

ليتَنا بلا ذاكرة
كالنهرِ والمرايا.
ليتَنا كالأزهارِ والشهداء
نموتُ ببراءةِ براعمِنا.

ما من نهايةٍ سعيدة،
مهما أضاءَتْ لحزنِنا زينةُ الواجهات.

الليالي البيضاء


كم من الليلِ في كلمةٍ كارهة
وكم من الملائكةِ المرسومةِ سَهْوًا
في سوادِ الفناجين.
كأسٌ وشُبَّاكٌ مواربٌ وعزفٌ منفردٌ لمطرٍ مُتَقَطِّعِ الإيقاع.
ثمّةَ نجمةٌ أقربُ من قريناتِها دائمًا. كأنَّها دمعة.

مضى العمرُ الأجملُ وأجملُ الأصدقاء.
حُبٌّ بكلِّ أقنعةِ الحُبّ، مَرَّ بنَهْي نهرٍ، كَسَرَني بينَ أشيائي.
عَتَقَ أعناقَ الأشجار.
تركَ الغابةَ كطاولةٍ في مكانِها.

سيجارةٌ تلوَ الأُخرى أَهْدِرُ أنفاسي، كما يتنهّدُ في كلِّ خطوةٍ قطار.
أُبَدِّدُ الوقتَ الفائضَ عن ظلالِ يَدَيَّ، في رَسْمِ الغيوم. هذه التي يلوّنُها الصغارُ بالحبرِ الأزرق، على صفحةِ سماء.
لطالما نَدَتْ ليَ الأشياء، وكأنَّني حُلُمٌ داخلَ مرآة.

إذ أستعيدُ ذاكرتي الأُولى، أجدُ جذرًا لكلِّ كذبة.
الحقائقُ عشبُ الأعتاب، لكنَّنا نَدْخُلُ الحُبَّ بأعينِنا إلى السقف.

أينَ صاحبُ هذا البيتِ السائبِ كخريفٍ على رصيف؟
ولِمَن تركَ الغريبُ درّاجتَهُ كغُصْنٍ على سياج؟

ها هم أطفالي يحلُمونَ بأحداقٍ أوسعَ من الدموع.
ها هي أهدابُهُمْ تجابهُ الليالي بجرأةِ أهِلَّة.
الأحبارُ وحدَها لا تكفي.
لا بُدَّ من القَصِّ واللَّصْق
وكأنَّ الحياةَ بمُتَّسَعِ ربيع​.

فراشات ميّتة في كفّ موديلياني


لا حاجةَ لي بأجنحةٍ حولَ وَحْدَتي.

كي ترتفعَ الغرفةُ الفقيرةُ قليلًا
عن الليلِ والوحل
وعُلَبِ السردينِ الفارغة،
تكفي رَفَّةٌ من ريشةِ الرسّامِ الوسيم.

أرقٌ مديدٌ من الكحولِ والكدماتِ القديمة
حولَ أجفانِ الجميلاتِ الشاحبات
العارياتِ في البياض
الجالساتِ كأميراتٍ ناعساتٍ على كراسٍ موسيقيّة.
ثمّةَ مقعدٌ ناقصٌ من كلِّ حكاية،
أُرَجِّحُ أنَّهُ فُسْحَةُ الأمل.

بلا خجلٍ تخلعُ المرأةُ المجهولةُ قميصَ روحِها على الوسادة.
الوجهُ مجرّةُ أقنعة،
النهدُ تُفّاحةُ نيوتن.
الحياةُ نكتارُ نُكْتَة، لولا أنَّها تؤلمُنا.

مَن الذي واربَ النافذةَ على رذاذِ باريس؟
ولماذا يتطايرُ غُبارُ الغرفةِ وكأنَّهُ خريفٌ من الملائكة؟
وكيف ينامُ بيكاسو قريرَ الأحلامِ في قبرِهِ
وقد كَسَرَ كافّةَ القلوبِ في مُتْحَفِ الدموع
عدا قلبَهُ ذا القرنيْنِ المعقوفَيْن؟

بأصداءِ البراءةِ في الثلج
في الرشفةِ الأُولى من فنجانِ قهوةٍ أو كأسِ فودكا ببرتقالِ الغروب
في رجفةِ أوّلِ رسالةِ حُبٍّ تحتَ فُتْحَةِ الباب
في الجُرْحِ الساكنِ بخفّةِ فراشةٍ في راحةِ يدٍ مفتوحة
يمتدُّ الندمُ كخيطِ قطار
من قريةٍ تتشكّلُ على التَّلّ
حتّى أقصى محطّةٍ من سوادِ المدينة.

عيونٌ لوزيّةٌ حزينة، كي لا تفيضَ ضحكةٌ عَنِ الضفاف.
أعناقٌ طويلةٌ أُسْوَةً بأشجارِ الطريق.

على أنينِ شمعة
ينحَتُ الرجلُ النحيلُ عشيقاتِهِ في الحجر.
على بياضِ المَمَرّ، تُصْلَبُ أجسادٌ مضيئة.
بأعقابِ أعمارِنا تمتلئُ المنافض
لكنَّ الألوانَ توقِظُ ظلالَنا.

كأنَّما القناعُ أصدقُ من الأمل.

في المرسمِ القُزَحِيِّ كعزلةِ شاعرٍ شاحبٍ في نُزُلٍ صغير
تتجمّعُ غِربانٌ من بقايا الأحبار
وتُلْفَظُ أنفاسٌ أخيرة.
لا أحدَ يُصْغي إلى الطفلةِ التي بفداحةِ خطإٍ مطبعيٍّ في كتابِ تاريخ.

الوجهُ باسم،
اليَدانِ غيمتان.
وحيدًا يموتُ موديلياني
كما تَسْقُطُ على نفسِها ورقةُ شجر.

لوحة ألوان جرح


تشيخُ المشاويرُ من خُطى الخاسرِين
وكأنَّنا نُدَفُ الثلجِ التي تَضَعُ النقاطَ قبلَ انتهاءِ الجسور.

كيفَ يَهْرَمُ العاشقُ في بُرْهَة؟
كأنَّما الهجرُ حصيلةُ ألفِ عُمْر.


بلمسةٍ من مطر
تَتَّسِعُ باريسُ على نفسِها بسيمتريّةِ نَسْر.
كأنَّها رسالةٌ منسيّة
تتفتّحُ أزهارُها للتوّ:
الشوارعُ المورقةُ بشبابيك
الحديقةُ المُجَنَّحَةُ بتماثيل
مظلّاتُ المقاهي المُشْرَعَةُ للحُبّ
باقاتُ المواعيدِ وفراشاتُ عَرَبَةِ الآيس كريم
دَوّارةُ الأحصنةِ الخشبيّةِ التي بلا صهيل
ووردُ الآنيةِ المشروخةِ على رَفِّ بيانو مهجور.

ها أنا أقِفُ على رَبْوَةٍ ناجيةٍ من روحي
برداءِ ريحٍ مُنَقَّطٍ ببكاءِ الغيوم.
وجهي نحوَ المدينةِ الفاصلة،
شمعتي تَقِلُّ بنحولِ قمرٍ بينَ الأصابع.

بلا دموعٍ يتلألأُ الندم
بضحكةِ ذلكَ النادل
الصينيِّ الصادق
الساخرِ الحصيف.

لكم مشيتُ فوقَ خريفِ الأرصفة
كما يتسلّقُ ليلٌ سلالمَ النجوم
كي أرسِمَ قوسَ قُزَحٍ بلوحةِ ألوانِ جُرْح:
الأحمرُ نَدْبَةٌ لا تَنْدَمِلُ من نسياني
البرتقاليُّ قبّعةٌ من قشِّ الغروب
الأصفرُ باقةٌ بتوقيعِ فان غوغ
الأخضرُ صَفْصافٌ يضحكُ على ضفاف
الأزرقُ حبرُ نسمةٍ لتَكْتَمِلَ حكاياتُ البحيرة
النيليُّ كي ينجوَ من نفسِهِ غريق
البنفسجيُّ مساحاتٌ مُغَمْغَمَةٌ من المغفرة
والبياضُ كلُّهُ في دمعةِ شاعر
يقرأُ طالعَهُ في خارطةٍ بلا كنز.

كم كانت الخدعةُ بارعةً
كسماءٍ تسيلُ بجَرَّةِ قلمٍ جافّ،
لولا أنَّ الدموعَ التي تملأُ الكون
دموعُ سواي​.

معنى المطر

بغَلَبَةِ الغيوم
تَرْتَسِمُ في غَرَقِها مدينة:
غرفةٌ من نقطةِ حبر
بيتٌ في الفراغِ الذي بينَ قطرتَيْن
ساحةٌ ومَسَلّة
برذاذِ نهرٍ مُجَنَّحٍ بلا ضفاف.

أُسَمِّيها باريس
أُسْوَةً بالعاصمةِ التي ابتلعَتْها دموعي،
وأنساكَ في الأماكنِ التي كانت مخابئَنا
من النَّاسِ والمطر.
في المقهى ذي المظلّاتِ الخضراء
يضحكُ ملاكٌ صغيرٌ أو يَنْكَسِر
مع قطعةِ بَسْكوت
في مِنقادِ عصفور.

تَشِفُّ الشوارعُ بأوراقِ أشجارِها
مثلما تضيءُ احتمالاتُ حياةٍ أُخرى
خلفَ زجاجِ الشبابيك،
لكنَّني لا أجرؤُ على مُلامسةِ وجهيَ القديم.

منذُ عُمْريَ الذي مضى بشجنِ قطارٍ نحوَ نهاياتٍ ناقصة،
منذُ ملايينِ السنينِ من النورِ والعتمة
وحكاياتِ الأبيضِ والأسودِ المُلْتَبَسَة،
وهذا المطرُ يتساقَطُ على سقفٍ شفيف
من عزلةِ فندقٍ منسيٍّ وَسْطَ كومةٍ من الرسائل،
لولا أنَّ الأنهارَ والغيوم
لا تكرّرُ أخطاءَها.

يكادُ يكونُ مطرَ طفولتي نفسَهُ
لولا مظلّةٌ بيضاءُ تتفتّحُ في يدي
لولا ظلّي الذي يطولُ مع تنهيدةِ الأسفلت
ولولا أنَّ وجهيَ ورقةُ خريفٍ آسفة.

تنطفئُ نوافذُ وتَمَّحي منازل
على سطرِ رصيفٍ من أعمارِ الشموع.

تكادُ الموسيقى تملأُ جمجمتي
لولا أنَّ الأغانيَ مفاوضاتٌ طويلةٌ مع المطر
والعاشقَ المُعَلَّقَ من دموعِهِ
يتهاوى صفحةً صفحة
فوقَ دفتري المفتوح​.

فصل دمعة عن نهر


كثيرةٌ هي الحياة،
أكثرُ من أعوادِ الثقابِ في علبةِ أعمارِنا التجريبيّة
ومن دموعِنا ذاتِ المدى الطويل.

أكثرُ من نَخْبٍ مخمورٍ بالحسرةِ والحماس
في حانةِ الأقمارِ الخافتة،
ومن نجومِ الألوانِ والأدرينالين
في أكياسِ دُمى الأصابعِ من طفولتِنا.

أكثرُ من المدينةِ الكثيفةِ وَسْطَ ثوبٍ شفيفٍ من خريف،
ومن كلِّ مُصادفةٍ تَهْوي بلا رَفَّةِ فراشة
في الفراغِ الذي بينَ عزلتَيْن.

أكثرُ من نفسِها الحياة
حينَ الحُبُّ ريشةٌ بيضاء
عالقةٌ بشرفةٍ مُعَلَّقَةٍ
بقطرةٍ من مطر.
لكنَّ مثلَ هذا الليلِ القصير
غرفةٌ مُغْلَقَةٌ على امتدادِ الأرق.

على رصيفِ الذاكرة، تَسْقُطُ أوراقٌ بثِقَلِ أقنعةٍ ميّتة.
من فِناءِ الفندقِ إلى مقهى الفَناء،
إلى عشاءٍ يابانيٍّ لشخصٍ صامتٍ ووحيد،
إلى غربةِ الشوارعِ الماطرة
وخلاءِ الساحاتِ من أيِّ أمل.

هل يَجْفَلُ من صورتِهِ في الرماد
من يُدْرِكُ أنَّهُ ذَرَّةٌ بوزنِ الكون؟
وكيفَ بوسعِ نهرٍ بمثلِ هذا الوسع
أن يغرقَ وحيدًا في نصفِ دمعة؟

لفصلِ وجهي عن الجُرْحِ الجائرِ على كلِّ عتبةٍ ونافذة
أُسْدِلُ نفسي كنَصْلٍ على نفسي.
أَكْسِرُ الذينَ أحببتُهُمْ وأكرهُهُم.
أَلْتَهِمُ كعكةَ الوافل بالكْريمة بكاملِ كَفِّي.
ألتقِطُ صورةً للذكرى
لتمثالٍ مائلٍ على نُعاسِ النوافير،
أُسَمِّيهِ الملاكَ رقمَ صِفْر​​.

تحيّة إلى عصافير الرصيف


"هُنا على عتبةِ ذكرياتي"
يتنهّدُ الملاكُ الأوّل،
دونَما إشارةٍ إلى وردة
في قلبِهِ الذي بوسعِ سلّةٍ من القشّ
فارغة.

البداياتُ المفتوحةُ أجملُ من رنينِ النجمةِ التالية:
"يا لَعمقِها
عتمةُ روحِ
هذا الذي
يَتَشَبَّهُ بالجوهر".

𓅪

"رَ الدموع".

كم هي بريشةِ أهدابي
رسالةُ رشا التي تهمِسُ للنسمة: "كُوني"،
فيضيئَني الحزن
بفِضَّةِ صَفْصافِ الضفاف
وحرّيّةِ حرفٍ وحيد.

𓅪

"في سبيلِ الغد"
أرسِمُ الوجهَ والهلال
الشمعةَ والعصا
الغمامةَ الشاردة
وغابةً لغزال.

أكتبُ: "حُبٌّ صغيرٌ يَكْبُر"
كقِصاصٍ على قُصاصاتِ الشجر.

ماذا يفعلُ ربيعٌ بكلِّ هذه الأوراق؟


أمشي فوقَ رِمْشِ الرصيفِ الغافي
تحتَ أسمالِ المشرّدِينَ الباسمِين.

أُطَيِّرُ سهريَ الطويلَ في المقهى
بألوانِ بطاقاتٍ بريديّة
نحوَ غربةِ أصدقائي.

عصفور فوق قبر نابوليون


ها نحنُ نَقِفُ وجهًا لوجه
كما تتجابهُ صفحتانِ في كتاب.

أنا خريفُ نفسي
بنصفِ حبرِكَ على نبضِ قميصي،
وأنتَ خارطةٌ مرسومةٌ بصدإِ قطار.

كيفما أُديرُ دمعتي
العُشَّاقُ ضفائرُ مشاويرَ طويلة.

نحوَ الحيِّ اللّاتينيّ
أسلو بسلامِ العصفورِ الذي يحومُ وحيدًا
حولَ قُبَّةِ قبرِ نابوليون.

بجناحِهِ تتفتّحُ مروحةٌ من ذكرياتي.

مَن الذي أفلتَ بالونَ بيتِنا بينَ صخورِ الفضاء؟
وهل غَدَتْ صلواتُنا القديمةُ غيومًا؟

تحتَ أغصانِ الكستناءِ الشاهقة
أحنُّ إلى أغنيةٍ لا أعرفُها.
أضحكُ وأَبْتَلُّ برذاذِ النوافير.

وحيدةً كالرحى
تدورُ الأحصنةُ الخشبيّةُ والدموع.

أَيُعْقَلُ أن تكونَ هذه الرُّقْعَةُ من الرماد
​مَرْبَطَ طفولتي؟

الصَّفْصافُ صهيلُ نهرٍ هاربٍ في الليالي
وأنا تمثالٌ بثِقَلِ يمامةٍ فوقَ الذراع.

إن لَمَسْناه
تَفَتَّتَ مع أصابعِنا،
الحُبُّ الذي لا يتفتّحُ مع الفراشاتِ والنوافذ
وزهرِ الملوك
وخبزِ الغرباء​.

فاتورة باهظة​


تي-شيرت برسوماتٍ طفوليّةٍ ترفرفُ فوقَ النبضِ والظهر.
مظلّةٌ واقيةٌ من مزاجِ المطر.
حذاءٌ أنيقٌ للمشيِ فوقَ أوراقِ الأرقِ الطويل.
عَلَّاقَةُ مفاتيحَ لأبوابٍ لم تُطْرَقْ من قبل.

قُصاصاتٌ قديمةٌ وكُتُبٌ جديدة،
من بينِها سيرةُ رسّامٍ انتحرَتْ كلُّ عشيقاتِه.

محفظةٌ للأقلامِ التي تحفِرُ ظلالي في البياض،
ممحاةٌ كبيرةٌ للأخطاءِ المُتكرِّرة.

غرفةٌ في فندق
تُطِلُّ على حياةٍ بديلة.
سريرٌ يَسَعُ الكون
ويضيقُ بتنهيدةٍ مُعَتَّقَةٍ بينَ الضلوع.

زجاجةُ عطرٍ بلا ذاكرة.
نظّارةٌ بظلالِ مدينةٍ أُخرى على الزجاج.
علبةُ سجائر
وولَّاعةٌ بعشرينَ يورو!
علبةُ مناديلَ مجّانيّةُ الدموع.

مجلّاتُ ميكي المُتشابهة
وألواحُ شوكولاتَه...

كم كلّفَتْني الحرّيّةُ كي أُدْرِكَ
أنَّ السعادةَ سيجارةٌ مع الريح
ومع أصدقائيَ المشرّدِين
في شارعٍ فسيح.​

خانُ الخسارة


هذه نافذةٌ مُشْرَعَةٌ على الهجر: شارعٌ ضيّقٌ وشجرتان، إحداهُما تضحكُ بالعصافير.
تحتَ المطرِ يلمعُ الأسفلت، بفِضَّةِ المشاويرِ الماضية.
مقهًى ومَتْجَرٌ مُغْلَقٌ ودرّاجاتٌ بأقفالٍ حولَ أقدامِ القناديل.
كلّما تفتّحَتْ مظلّة، اتَّسَعَ الشارعُ مساحةَ دمعة.

على قَدَمَيْنِ من قشِّ الباقاتِ المهدورة
بوجهٍ شاحبِ القسوة
أقِفُ قبالةَ المطر.
نصفُ أصدقائي في قبورِهِم
يُرَتِّبونَ صُوَرَنا القديمةَ بينَ صفحاتِ التراب.
النصفُ الآخرُ يبادلُني الصمت
وأُيقوناتِ القلوبِ الملوّنة.

هل تنبُتُ أعمارُنا ثانيةً
كما تتكرّرُ الأزهار؟

ماذا أفعلُ بهدايا النهاية؟
ألا تصدأُ الأبوابُ المُغْلَقَةُ إلى الأبد
أُسْوَةً بالنِّصالِ في نَداوَةِ جُرْح؟

هيكلٌ فارغٌ أملؤُهُ بالأوهام
جادَّةٌ تتلألأُ بأشجارِ الخَسارة
جسورٌ تنحني بريشةِ شمس
رذاذُ عصفورٍ في فَيءِ رصيف.
باريسُ آنيةٌ آيلةٌ للانشطارِ كما كلِّ الأهِلَّةِ والعَلاقات،
وأنا في متاهةِ نفسي أركض
بقميصٍ مُقَلَّمٍ من مرحلةِ بيكاسو الزرقاء.

هكذا تتسلّلُ المدينةُ إلى مَسامِّي مَرَّةً أُخرى،
بخفّةِ غروبٍ يذوبُ مع ضحكةِ الآيس كريم​.

هي المياه العالية، هو الجحيم


لوحدِنا في صميمِ العاصفة
وقد خَلَت المدينةُ فجأةً
من النَّاسِ والعصافير.

وحدَها الأشجارُ على أوتادِها
وشمسُ المُقامَراتِ الباهظة
ومصابيحُ النهار.

بوَطْءِ ورقةٍ على رصيف
أكادُ أسألُك:
كيفَ يُشْفى قلبٌ من رُهابِ النهايات؟

لكنَّ صوتي كإبرةٍ في بئر،
ومثلُ هذا المطر
لا يقاطعُهُ إلّا قطارٌ مجنون.

أذكرُ وجهي وذراعيَّ وَسْطَ دَلْوٍ من الدموع،
في لوحةٍ ما، في مُتْحَفٍ بلا لافتةٍ أو زائرِين.
الحُبُّ ذاكرةُ كونٍ في قلبِ دمعة.

صادفتُ الموت
في أكثرَ من طريق
ولم يَكُنْ في مَرَّةٍ ملاكًا.

حَدَّثَني بنحولِ ثعلبٍ أحمرَ على رصيفِ مقهى،
وبصورةِ غُرابَيْنِ يغلبُهُما الحنان
على حافّةِ المصير،
وها هو يأتي بلا رسالة
مُهانًا ووحيدًا كنهايةِ العالم
على هيئةِ مطر​.