.القاهرة، 1998
.لوحة الغلاف: خوان ميرو
0
.يُغادِرُنا المكان
.مُرَبَّعاتُ الإسمنتِ أوَّلاً، ثُمَّ المقاعِدُ في إثرِها
الفراغُ المباغتُ
.يفرضُ تأثيثَ الأرواح
1
كانَ علينا أن نكونَ أكثرَ صلابةً وبياضًا
كأنَّنا الحوائطُ التي تُكَوِّنُ الزوايا
.وتسندُ السقفَ والظلال
كانَ على أصابعِنا ألاَّ ترتعشْ
وعلى الوقتِ
أن يُمْهِلْنا قليلًا
كي نمنحَ اللحظةَ ألوانَ لوحةٍ أخرى
غيرَ البغيضةِ
.غيرَ قتامةِ ملابسِنا
2
لم نَكُنْ نشعرُ بخشونةِ البردِ
.أو بالخفافيشِ العالقةِ بصُوفِ معاطفِنا
كُنَّا نسيرُ
كالتماثيل
مقنَّعينَ بأحجارٍ من كهوفِهِمْ
.كارثةً لا تعني أحدًا سوانا
حملْنا الصناديقَ
ومشينا نَحْلُمُ
بخشبِ التوابيتِ يخضرُّ
.يعودُ أشجارًا نتسلَّقُها
بقلوبٍ صغيرةٍ خبَّأناها في الجيوبِ
كعُلَبِ سجائر مجهولةٍ لآبائنا
بخطواتٍ متهدِّجةٍ
أنهكتْها الرطوبةُ في أصواتِهِمْ
بالمسافةِ حينًا
وحينًا بالسعال
نزحنا
من وهمٍ إلى آخر
.جذوعًا تركلُ تشوُّهاتِها في غبار
من أينَ نبدأ
في مثلِ هذا الخواءِ الشاسع؟
وإلى أيِّ هاويةٍ
سيقودُنا الأسف؟
.العيونُ لاغيةٌ
.الأقدامُ أمطارٌ تتساقطُ بانتظامٍ مُدْهِش
3
لأبوابٍ أغلقْناها على خلافاتِهِمْ
سنديرُ ظهورَنا المقوّسةَ ونمضي
وحيدِينَ صوبَ اختلافِنا
كشجرٍ غادرَ غابتَهُ
سنقطعُ كُلَّ الجذورِ التي تَصِلُ ترابَهُمْ بقلوبِنا
كأنَّ الذينَ يسكنونَ الصراخَ
ليسوا آباءَنا
كأنَّنا قادرونَ على النموِّ والضحِك
بضوءٍ قليلٍ
.دونَهُمْ
4
نحنُ الآنَ أكثرَ قدرةً على استيعابِ قسوتِهِمْ
وعلى افتعالِ الحنانِ
دونَ نفورٍ
كُلَّما احتكَّ جلدُهُمْ بيُتْمِنا
وكُلَّما عبرتْنا أحضانُهُمْ
مُسْرِعَةً
كأنَّها تهابُ ظلالَنا
تذكَّرْنا الحانةَ التي احتوتْنا
وليلاً كانَ يُرَبِّتُ على أكتافِنا المتكلِّسةِ
كُلَّما أحنيْنا على الخشبِ ظهورَنا
مُثقلينَ بهم
.أجنحةً دونَ وظيفة
5
.لا غربةَ أشدَّ من أصواتِهِمْ في النزاع
شرودُنا
إذ يزحفُ نحوَ عزلتِهِ
يُطمئنُ فئرانًا تقضمُ حوافَّ النومِ
بأسنانٍ حادَّةٍ
كأصواتِهِمْ
ولأنَّ أعضاءَنا ناقصةٌ
.سيئنُّ الخشبُ في المفاصل
6
من الدخانِ
نُولَدُ
وليسَ من أرحامِ الأمهاتِ
كما أوهمتْنا العائلةُ صغارًا
لكنَّ المرايا التي تعكسُ كؤوسًا متكرِّرةً بينَ الأصابع
ضلَّلَتْ رؤوسَنا
.تلكَ المثقلة بفاكهةٍ حامضة
7
هذا الدمعُ المنسكبُ في تراب
غيرُ قادرٍ على إعادةِ الروحِ لخلايا الكلوروفيل الميِّتةِ في أوراقٍ
لم تنجُ من حريقٍ أشعلناهُ
بأعقابِ السجائر
بغروبٍ تركناهُ وحيدًا وراءَنا
دونَ قصدٍ
دونَ درايةٍ بما يعنيهِ الجحيمُ آنذاك
.ولم تغفرْهُ لنا الغابةُ-الأمّ
وإلاَّ بماذا تفسِّرونَ تعثُّرَنا
بجذورٍ قاتمةٍ
وظلالٍ تتمايلُ
كُلَّما خَطَوْنا؟
8
مغروسونَ في الحرمانِ
حتَّى أعناقِنا المتغضِّنة
ولا لذَّةَ
تحفُّ العروقَ
غير َهواءٍ قليلٍ
.تُسَرِّبُهُ الأجنحةُ العابرةُ لذبولِنا
لم نَكْبُرْ
إنَّما المدرسةُ هي التي صَغُرَتْ
بسياجِها المطوِّقِ لبراءتِنا
وأشجارِ السَّرْوِ
.والباصات
.ما كانَ لنا أن نتبعَ خطوَنا على النار
.ما كانَ لأيدينا أن تمتدَّ لتلكَ الكؤوس
9
لن نألفَ الضغينةَ التي تجمعُنا
وأقدامُنا المثبَّتةُ في دائرةٍ
لن تطأ هذه العتمةَ ثانيةً
رُبَّما، بعدَ أيامٍ قليلةٍ
نعودُ بلا شمسٍ إلى المقهى
.بلا عصافير على الحواف
10
مُعَبَّأةٌ بدخانٍ يُبدِّلُ هيئتَهُ
من جبلٍ إلى تمساح
تحدِّقُ في عزلتِنا
في مللٍ يبادلُنا ورقَ الكوتشينة
وعلبةَ الكبريت
فيما الذينَ صلبوا طاقتَنا على خشبِ النماذج
يقتلعونَ الأحلامَ التي لم تنضج
بمناجل تلمعُ
دونَ أن يغيِّروا ثيابَهُمْ
يهشِّمونَ حيواتِنا
بمدنِها الصغيرةِ
.ومقاهيها المبتلَّةِ على أرصفةٍ تتآكل
أطفالُها الذاهبونَ إلى المدرسةِ شاحبون
كما لو أنَّ قلوبَهُمْ تفحَّمَتْ في الليلِ
.لتلائمَ البيوتَ التي يعلو بعواميدها الصراخ
11
من السقفِ الذي تسندُهُ يدُ التثاؤب
لئلاَّ يهبطَ الكابوسُ المتكرِّرُ
كعنكبوتٍ
,متشابكًا بأصواتٍ تخفتُ
.تتدلَّى حبالٌ دونَ جثث
نغلقُ أهدابَنا
كما في الموتِ
كما في دخولِنا هذه الحجرة السوداء
حيثُ وسادةٌ فقدتِ النومَ
وخزانةٌ عاريةٌ
وكرسيٌّ يجلسُ في ركنٍ
.مأخوذًا بجدارٍ خامس
نعلِّقُ الشمسَ
لحظةً تعبرُ الرتابةَ دونَ مطرٍ
أو أشجارٍ
أو حيواناتٍ أليفةٍ تلعبُ معنا
مؤرجحينَ أوهامِنا على عتباتِهِمْ
صانعينَ في كُلِّ مرَّةٍ تشكيلاً مختلفًا
تحملُنا الدهشةُ التي يُلقيها
إلى ذروةِ اللذَّةِ
.لتقذفَنا فجأةً في الضجر
.الساعةُ لا تشيرُ إلى زمن
.لا ساعةَ على الجدارِ أصلاً
.فقطْ حيواناتُ قِماشٍ على الموكيت الأبيض
.هكذا، أوهمْنا السقفَ أنَّنا بلا ماضٍ
12
كُلٌّ منَّا حائطٌ
وظِلٌّ
ولوحةٌ خاصَّةٌ بحالتِهِ
يشردُ بينَ زواياها طويلاً
كأنَّ المَرْسَمَ الكامنَ في مدينةٍ لم يمر بها قطارُنا
كانَ يطلُّ علينا
.تحتَ شجرةٍ لوَّثْنا رئتيها بالسجائر
13
العازفُ الذي يستخدمُ عُلْبَةَ غيتارِهِ تابوتًا
سيقفزُ من بابِ القطارِ فجأةً
ترافقُهُ آلتُهُ الموسيقيَّةُ
.وأصواتُنا
كعادتِنا
سنهزأ بالأمرِ
.ونستمرُّ في الضحكِ والتدخين
لكنَّنا في عودتِنا من مدينةِ الملاهي
سنتذكَّرُهُ
.ونتتبَّعُ صدأ دمعاتِهِ على القضبانِ الحديديَّة
14
الهيكلُ العظميُّ في مختبرِ المدرسة
بالقبَّعةِ السوداء
نحمي جمجمتَهُ من حرارةِ اللمبةِ الفوسفوريَّة
من تسرُّبِ جنونِنا إليها
وبشيءٍ من الرهبةِ
نفتحُ الفكَّينِ المثقلينِ بالصمتِ
مُثبِّتينَ سيجارةً مُشْتَعِلَةً
لن يتذوَّقَ تبغَها
ولأنَّ طاقتَنا لا تحتملُ فكرةَ الموتِ
نُدْخِلُ سمَّاعتينِ مكانَ أذُنيهِ
ونهزُّ عظامَهُ
.مُعانقينَ عجزَهُ عن الرقصِ معنا
15
رؤوسُنا للفراغ
لطيورٍ عملاقةٍ لا تمنحُ العظامَ ريشَها
لإلهٍ صغيرٍ
ألبسناهُ معطفَ دموعِنا
.كي تصدأ في الأرواحِ المشوَّهةِ مساميرُه
بعيدًا عن أجسادِنا المُعْتَلَّةِ
بهشاشةٍ يدركُها الحطَّابونَ
وينتهزونَها فرصةً لاغتصابِنا
.يُصْنَعُ الأثاثُ وتُحْكَمُ التوابيت
من جلدِنا الورقُ
.وقصائدُ المدرسةِ والمقاهي
.نحنُ الصناديقُ والموتى بداخلها
ما يُؤَرِّقُ الغاباتِ في رؤوسِنا
كُلَّما اختبأنا-
تحتَ ملاءاتٍ ناصعةٍ
-كأسنانِ أطفالٍ مُبْتَسِمِين
افتقادُ خشبِ الأسرَّةِ لجذورِنا
أو تسرُّبُ أنفاسِنا المخمورةِ
.من شقوقٍ صغيرةٍ في إطاراتِ النوافذ
16
ما الغرابةُ
أيُّها الأصدقاء
في عصفورٍ
يعبرُ غيمةً
في سقفِ الحانةِ
ويصطدمُ بشبيهٍ
في لمعانِ المرآة؟
ما عنصرُ المفاجأةِ
في تفكُّكِ جَمْعَتِنا
وتَحَلُّلِ الشموسِ المدلاَّةِ من الأعناق
إلى سوائل حامضة
تُفْسِدُ قمصانَنا المربَّعةَ
وتُخْمِدُ سعالاً متقطِّعًا في صدورِنا؟
كُنَّا على يقينٍ
أنَّ أرصفةً متصدِّعةً كرؤوسِنا ستنبذُنا
دونَ رفاقٍ أو موسيقى
.و أنَّ أسنانَنا سيحرثُها الضحك
17
دائمًا في أمكنةٍ ضيِّقةٍ
.تُعيقُ رفرفةَ أذرعتِنا
على ظهورِ المقاعد
نسندُ تقوُّسًا وراثيًّا
.ضاعَفَتْ درجتَهُ حقائبُ المدرسةِ والسفر
ندخِّنُ الهزائمَ بشراهةٍ عضويَّةٍ
أحيانًا، نميلُ برؤوسِنا إلى الوراء
.لعلَّ الصداعَ يسقطُ بالوساوس
الأسودُ الحادُّ
وحشةٌ على الجدران
دونَ لوحاتٍ
.دونَ ظلالٍ تمرّ
لأطفالِنا الميِّتين
خِفَّةُ الملائكةِ في الأحضان
لَهُمْ جلدٌ في حنانٍ مزرقٍّ
وعيونٌ منمنمةٌ أليفةٌ
.تحدِّقُ في فجيعتِنا ولا ترانا
18
لن يصحبَنا أحدٌ إلى تلكَ الحجراتِ المخنوقةِ المتربة، حيثُ لا مفاتيحَ ضوءٍ ولا نوافذَ نواربُها. ستكونُ الأمهاتُ مشغولاتٍ بإخوتِنا، أشباهًا جارحينَ كحوافِّ المرايا. سيذرفنَ الحسرةَ دونَ انتباهٍ في الأواني، ليكونَ طعامُ العائلةِ مالحًا، مُرًّا، كالترابِ في أفواهِنا، كُلَّما ابتسمْنا لملاكٍ يعبرُ عتمتَنا ويتوارى. أمَّا الأصدقاء، فلا بُدَّ أنَّهم سيعونَ فكرةَ الموتِ مبكرًا ويرتبكونَ تجاهَ التعلُّقِ والفقد. رُبَّما يتركونَ لنا بعضَ ورداتٍ على عتباتِ أبوابٍ لن تُفْتَح. سنذهبُ وحيدينَ إذًا، ترافقُنا الأجسادُ لحينٍ، ثُمَّ تُنْسَلُ ببطءٍ خيوطًا لا تلحظُها الستائر، تمامًا كالأرواحِ التي غادرتْنا.
19
.كانَ الحنانُ أوّلَ من سقطَ منَّا
.كانَ الليلُ أطولَ من أذرعتِنا في العناق
يداك في فراغٍ
.والاستحواذُ كامنٌ في كمائنِ الاحتواء
لم تكن تلكَ المحبةُ خالصةً
المرآةُ لم تكشفْ لي أوراقًا
شجرةٌ هَوَتْ في شارعِك
.أخرجَتْني من وهمِ الغابة
هل كانَ حِضْنُكَ حقيقيًّا؟
هل أسندتُ رأسي -فعلاً- على روحٍ تنتفضُ عبرَ أنفاسِها؟
.لا أذكرُ من الحجرة ِسوى نافذةٍ بحجمِ البحرِ أغرتْني بانتحارٍ أجَّلْتُهُ لحينَ فقدانِك
.ذلكَ العطرُ ما زالَ عالقًا بالخيوطِ التي قطعتُها، ملاكًا مشنوقًا من جناحيْه
ظلُّ الطائرةِ الورقيَّةِ لا يغادرُ مساحةَ طفولتي
رغمَ أنّني أفلتُّها
.وبترتُ أصابعَ اليدِ الواحدةِ التي كنتُ أحصي بها أصدقائي
20
كنافذةٍ ملوَّنةٍ في لوحة
قِطٌّ
على حافَّتِها
رغبتُهُ صفراء
أطلُّ
ورؤوسُ الصغارِ
على غيمةٍ خشنة
.تجرحُ الأجنحةَ في عبورِها
لا معطفَ
أدسُّ في جيبِهِ وردتي
لا خواتمَ
.لا عازفَ كمانٍ على سطحِ البيتِ المجاور
.برجٌ منتصبٌ كشجرةٍ معدنيَّة
.بناياتٌ مبعثرةٌ، مطفأة
رغمَ هندسةِ الحنانِ في مُكَعَّباتِ السُّكَّر
أتفكَّكُ
عن خلفيَّةِ الرموزِ وأطفالِ الورق
عن الزجاجِ المغبرِّ في سنواتٍ دهسَتْ براءتي
مثلَ شاحناتٍ ثقيلةٍ
قوَّسَتْ جسورَ الليلِ
."بما أسمِّيهِ الآنَ "الوعي
21
.لن أذرفَ أقنعتي على الطاولةِ أمامهم
سأدلقُ براميلَ من الألوانِ والبيرة
مُوهِمَةً أصدقائي بالبهجة
.غناءً خلفَ أبوابِ الحمَّامات
من الخيوطِ و القصاصاتِ
-إذ لم أمتلك الأحجارَ في تدحرُجِها-
.سأصنعُ المشانقَ والميِّتين
لشموسٍ عديدةٍ
بستارتي لَوَّحْتُ
لراحلين
خلَّفوا سجائرَهُمْ في المنافض
.تَفْنَى من تلقاءِ نفسِها
كُلُّ ما كانَ لي
تركتُهُ على الحبالِ
القمصانُ
وتلكَ الجثثُ المزرقَّةُ
كأظفاري
كسماءٍ في الحقدِ
تمطرُ الغابةَ
.بضحكٍ حامضٍ وخذلان
كُلُّ ما حلمتُ به
خذلني
وكأنَّ قدميَّ الصغيرتينِ
.مخلوقتانِ للانزلاق
22
كجذعٍ هجرتْهُ العصافيرُ
أقفُ وحدي
أكسرُ حدَّةَ الفراغِ
بقامةٍ ضئيلةٍ
وأصدُّ الرياحَ المنهكةَ
عن ظلٍّ يتطايرُ
.ولا يلامسُ أطرافَ المطر
:كُلَّما قطعتُهُ التأم
الشريانُ الذي يَصِلُ خياناتِهِمْ بدمي
وهذه الديدانُ
كُلَّما هَوَتْ
متخمةً بفاكهتي
أعدتُها إلى الجُرْحِ
.يدًا تجدِّدُ خلايا عزلتِها
بمفتاحينِ ذهبيِّي
-هُما كُلُّ ما تبقَّى منهما-
أغلقُ عينيَّ
على الفقرِ في العلاقة
على هذيانِ المرتعدينَ من أنفاسِهِمْ
لعلِّي في الوقتِ الذي على هيئةِ نهرٍ
أسقطُ
.خشبًا على خديعة
23
.شبحًا، أخترقُ الجدار
أستلقي على آلامِ ظهري
شاردةً في السقفِ الشاهقِ
.كصرخةِ جبل
جُثَّتي مُدَلاَّةٌ
تتأرجحُ بينَ ظلالِهِمْ
طائرةً من الورقِ المقوَّى
عَلِقَتْ بجسرٍ أحدبٍ
يعبرُهُ الصبيةُ العائدونَ من مدارسِهِمْ
يجمعونَ عصافيرَ ميِّتةَ في الطرقات
يتبادلونَ الأجنحةَ
حالمينَ بفضاءٍ أكثرَ اتِّساعًا
وآباءٍ أقلَّ قسوةً
خشيةً من تآكلِ الأبوابِ
.بأحقادِ البكتيريا
قلبي فَرْدٌ
آنيةُ دمعٍ خاويةٌ
إلاَّ من عفونةِ الأزهارِ المتحلِّلةِ إلى حشراتٍ
.تتنامى على غُبارِ الكومودينو الأسود
24
بأيَّةِ يدٍ أقْفِلُ النافذة َعلى المشهد؟
.صناديقُ الموتى تزحمُ حجرتي
الأمُّ تهمسُ لعشيقِها بأسرار ِالعائلة
،صوتُها الخؤونُ يقودُني على أسلاكٍ مكشوفةٍ
وهذه الجرذانُ في الزوايا متربِّصةٌ
.تتغذَّى على ما ترسَّبَ في الدمِ من أقراصٍ مهدِّئة
.مسَّني جنون
أصابعُ المهرِّجينَ في خواتمِ الدخانِ
والحسرةُ شجرةٌ محنتُها الفقدُ
.تحدِّقُ في حذائها
هل يستمرُّ الأطفالُ الملوَّنونَ طويلاً على بياضِ الحوائط؟
من دلَّ أقدامَهُمْ على طريقٍ سلكَتْهُ الراقصةُ بعدَهُمْ؟
وكيفَ استطاعوا أن يتسلَّلوا إلى الكوابيس
دونَ أن يرجِّفوا الظلّ؟
وحيدونَ في حضنِها
رغمَ تداخلِ الأعضاءِ والشوارع
يُعانقونَ دميةً تُشْبِهُها ولا تُبادِلُهُمْ القُبَل
ولأنَّ السلالمَ لا تصعدُ
يتسلَّقونَ آثامَهُمْ
عتمةً ثنائيةَ الجنسِ
.وردًا عائمًا يرافقُ انجرافَ الجثَّة
ربما يكونُ الإدراكُ قد أتلفَ تعدُّدي
فلا أستمتعُ بالصخبِ والكؤوسِ ثابتةً
.ولا أقوى على تحمُّلِ حناني
.شخوصٌ يتكاثرونَ حولَ السرير
.يُعْتِمونَ في الغيبوبةِ مساحةَ الركض
بطلقةٍ واحدةٍ
يمكنني التخلُّصَ من كُلِّ هذه الأشباحِ في الرأس
.في أنفاسِ حجرةٍ تضيقُ وتتّسع
25
.عَبَرْت
.رأيتُ غابةً هادرة
.أعرفُ الوجوه
.لا أذكرُ أسماءَها
.ليسَ الأزرقُ لونًا أو سماءً أو بحرًا
.الأزرقُ لوحةُ طفولتي
،الأزرقُ عصفورٌ بلا شجرة
.أسماكٌ في العينين، في الرئتين، في العروق
رأيتُ قصيدتي تُغادرُني
،كالمكان)
(كمُرَبَّعاتِ الإسمنتِ والمقاعد
روحًا تحلِّقُ فوقَ الجثَّةِ
.ثُمَّ تتَّجهُ نحوَ النفق
.إنَّني الآن على الجانب الآخر
.عبرتُ حياتي حيثُ لا شيء، لا أحد، سوى هذا الفراغ الأسود
.ما من أحدٍ مغلق
26
الشوارعُ ذاتُها
بالأسماءِ التي تحملُها منذُ قرونٍ
بأشجارِها العاريةِ
.عروقًا في أعضاءِ الفراغ
عناوينُنا فقطْ
.هي التي تغيَّرَتْ
أمشي
ظلِّي آخرٌ
شأنَ أفرادِ العائلةِ
.مثلَ أصدقائي
ثمّةَ عصافيرُ من الغليسرين تنهمرُ
مطرًا خادعًا
رغمَ تدفُّقِهِ
.كالحنانِ الذي في قسوتك
27
.ليست هذه مدينتي، أعلم
الخواءُ ضيِّقٌ، ما من رفاقٍ في هذا البلدِ البعيدِ يوسِّعونَ الروحَ
.والأمكنة
أكثرَ وحدةً من جُثَّةٍ لم تألفْ عتمتَها بعد
الذينَ أخمدوا صرختي بترابٍ
.عادوا إلى منازلهم
في انتظارِهِ
.سريرٌ وامرأة
أدخِّنُ الفقدَ
رئتينِ متفحِّمتينِ تنتفضانِ بسُعالك
كي أصنعَ غيمًا يؤنسُ ظلّي
.وأجعلَ من السقفِ سماءً صغيرة
28
من أطفأَ الأباجورةَ العاليةَ في غرفتي؟
.لا بُدَّ أنَّ شبحًا يقيمُ حيثُ كانَ لي في الزاويةِ سرير
.ثمَّةَ يدٌ مجهولةٌ نزعتْ صورةَ المغنِّي عن جدارِها، وألقَتْ بخشبِ غيتارِهِ في المدفأة
.الستارةُ في الطابقِ الثالثِ من العتمةِ والريحِ تلوِّح
لعلَّها لمحَتْ يدي المعلَّقةَ في خواءٍ
.غيمةً بلا خواتم
29
الشجرةُ التي حدَّثتني عنها مرارًا
التي تُسْقِطُ أوراقَها الصفراء
كمن ينفضُ عن معطفِهِ بعضَ الغُبار
.لم تَعُدْ أمِّي
.ما عادَ الطائرُ الأزرقُ الذي تطوِّقُهُ بذراعيها يأمنُ مزاجَ حنانِها
30
هكذا أعودُ
في ساعةٍ متأخِّرةٍ من التعب
.لعلَّ الجمرَ الذي في الأعضاءِ يستحيلُ رمادًا
.أخرجُ عن سياقِ الكؤوسِ والأصدقاء
.أغادرُ الضحكَ مكانًا لا يتَّسِعُ لانسكابي
.أتبعُ الوقتَ الذي مرَّ كغريبٍ تحتَ النافذة
.لم يَعُدْ في القسوةِ ما يُدْهِش
يدي اعتادَتْ سقوطَ خواتمها
وأشباحَ المحبَّةِ
خارجةً من المناديل
.حينَ ألوِّح
هكذا
عبرَ البياضِ في أكفانٍ مرصوصةٍ خلفَ البابِ
...توطَّدَتْ علاقةُ الأصابعِ بالفراغ
.أطفالي نائمونَ في الورق
توسَّدوا الألوانَ
.ناموا
.مُحْكَمٌ بيننا الزجاجُ، لئلاَّ توقظَ أحدَهُمْ خشونةُ سعالي
.أستلقي على السريرِ الأَرِقِ بثيابي
.علبةُ السجائر في مكانِها والهاتفُ المنسيّ
أفكِّرُ في النُدْبِ الذي في خدِّها الأيمن. تلكَ المرأةُ الغامضةُ لم تُسْقِطْ كُلَّ جلودِها. ليست عاهرةً، كما صوَّرَتْ لنا ملابسُها الفاضحةُ أحيانًا وتعدُّدُ لهجاتِها. ولا أعتقدُ أنَّ المقهى المهدومَ .سيعودُ إلى ما كانَ عليهِ: قشُّ السقفِ والجدران، الحبالُ الملوَّنةُ، وتلكَ الجَمْعَةُ المفكَّكةُ رغمَ الجلساتِ التي توحِّدُنا وغابةِ النراجيل.
.أُغْمِض
.ما عادَ ممكنًا أن أستعيدَها أمًّا ليتمي
.حِضْنُها مغلقٌ. ما من مفتاحٍ للبوَّابةِ التي تخذلُ ظلِّي كُلَّما اقتربْت
31
تحتَ مطرٍ من شجرٍ في السماءِ
سأقفُ
جذعًا ميِّتًا
نحتَتْهُ
-ليصيرَ أنا-
ريحٌ
.في خشبِهِ، نفخَتْ روحَها
سيَّاراتٌ قليلةٌ ستعبرني
في ظلِّي، سيدخِّنُ صغارُ المدرسةِ
كما كُنَّا نفعلُ في الماضي تمامًا)
تحتَ تلكَ الشجرةِ الكبيرةِ
قُرْبَ البوَّابةِ الرئيسيةِ
.(والسورِ الأحمر
سأنصتُ لارتطامِ الطيورِ
على المعطفِ البلاستيكيّ
والأسفلتِ الموحش
حتَّى تُفقِدني أحماضُ الملائكةِ وجهي
ويدي
.والأرضَ التي لم تعرف بعدَ الغيابِ حذائي
32
البابُ المعدنيُّ الأخضرُ
ذو القضبانِ العديدةِ والحارسِ الأوحد
الذي كُنَّا ندخلُهُ في الصباحِ ركضًا والحقائبُ الصغيرةُ تقفزُ على ظهورِنا مثلَ ضفادع تبعتْنا من النهرِ البعيدِ
.البابُ -عتبةُ الجنَّةِ في الخروج- مغلقٌ على طفولتِنا
.يدي تحثُّني على ملامسةِ حديدٍ مبتلّ
.لا أجرؤ
33
:على الرصيفِ المقابلِ، شبحُ ذلكَ المقهى. دوريٌّ على كتفِهِ الأيمن يحدِّقُ في ظلِّي. غبارُ السنواتِ بيننا. مِنْهُ، يولدُ المكانُ ثانيةً، وتحلِّقُ عصافيرُهُ بذاكرتي البابُ الخشبيُّ الخشنُ، المتأرجحُ الستارةِ بينَ صقيعِ الشارعِ العموميّ والدخان. الطاولاتُ المستطيلةُ ذاتَ المنافض والفناجين والصحون والأيدي. الكراسي التي قوَّسَتْ ظهورَنا. الجدرانُ الصفراءُ كأسنانِنا. النادلةُ الطيّبةُ التي تعرفُنا أكثرَ من أمّهاتِنا. النافذةُ الكبيرةُ التي يتسلّلُ منها الهواءُ الباردُ وضوءٌ يُشْبِهُهُ وتلكَ العصافير الرماديَّة، هذه التي تحلِّقُ برأسي الآن.
.مروة، عالية، منى، أنا: أربعةُ حوائط هُدِمَتْ في مثلِ هذا المطر
.السقفُ موتٌ ملوَّنٌ، معلَّقٌ في الخواءِ، يظلِّلُ رأسَ الشبحِ ودهشةَ الدوريّ على الرصيفِ المقابل
34
تحتَ هذا المطر المتساقط من الأعالي
سأقفُ
جذعًا يقلُّ
.وحلاً تتكاثرُ فيه أعقاب السجائر
.لن يفتحَ البابَ الحطَّابُ الذي قطَّعَ أعضائي
لن تحطَّ على كتفي
لن تدركني
في هذا المكانِ القديمِ
.شمسُ الأصدقاء
35
.أرجِّحُ الاحتمالاتِ الطيِّبةَ لِكُلِّ السوءِ الذي حَدَث
المحبَّةُ خدعةٌ
والحنانُ مشبوهٌ
.لكنَّني -رغمَ حِدَّةِ الألم- سأستمرُّ في تصديقِ ما لا أراه
.يُغادِرُنا المكان
.مُرَبَّعاتُ الإسمنتِ أوَّلاً، ثُمَّ المقاعِدُ في إثرِها
الفراغُ المباغتُ
.يفرضُ تأثيثَ الأرواح
1
كانَ علينا أن نكونَ أكثرَ صلابةً وبياضًا
كأنَّنا الحوائطُ التي تُكَوِّنُ الزوايا
.وتسندُ السقفَ والظلال
كانَ على أصابعِنا ألاَّ ترتعشْ
وعلى الوقتِ
أن يُمْهِلْنا قليلًا
كي نمنحَ اللحظةَ ألوانَ لوحةٍ أخرى
غيرَ البغيضةِ
.غيرَ قتامةِ ملابسِنا
2
لم نَكُنْ نشعرُ بخشونةِ البردِ
.أو بالخفافيشِ العالقةِ بصُوفِ معاطفِنا
كُنَّا نسيرُ
كالتماثيل
مقنَّعينَ بأحجارٍ من كهوفِهِمْ
.كارثةً لا تعني أحدًا سوانا
حملْنا الصناديقَ
ومشينا نَحْلُمُ
بخشبِ التوابيتِ يخضرُّ
.يعودُ أشجارًا نتسلَّقُها
بقلوبٍ صغيرةٍ خبَّأناها في الجيوبِ
كعُلَبِ سجائر مجهولةٍ لآبائنا
بخطواتٍ متهدِّجةٍ
أنهكتْها الرطوبةُ في أصواتِهِمْ
بالمسافةِ حينًا
وحينًا بالسعال
نزحنا
من وهمٍ إلى آخر
.جذوعًا تركلُ تشوُّهاتِها في غبار
من أينَ نبدأ
في مثلِ هذا الخواءِ الشاسع؟
وإلى أيِّ هاويةٍ
سيقودُنا الأسف؟
.العيونُ لاغيةٌ
.الأقدامُ أمطارٌ تتساقطُ بانتظامٍ مُدْهِش
3
لأبوابٍ أغلقْناها على خلافاتِهِمْ
سنديرُ ظهورَنا المقوّسةَ ونمضي
وحيدِينَ صوبَ اختلافِنا
كشجرٍ غادرَ غابتَهُ
سنقطعُ كُلَّ الجذورِ التي تَصِلُ ترابَهُمْ بقلوبِنا
كأنَّ الذينَ يسكنونَ الصراخَ
ليسوا آباءَنا
كأنَّنا قادرونَ على النموِّ والضحِك
بضوءٍ قليلٍ
.دونَهُمْ
4
نحنُ الآنَ أكثرَ قدرةً على استيعابِ قسوتِهِمْ
وعلى افتعالِ الحنانِ
دونَ نفورٍ
كُلَّما احتكَّ جلدُهُمْ بيُتْمِنا
وكُلَّما عبرتْنا أحضانُهُمْ
مُسْرِعَةً
كأنَّها تهابُ ظلالَنا
تذكَّرْنا الحانةَ التي احتوتْنا
وليلاً كانَ يُرَبِّتُ على أكتافِنا المتكلِّسةِ
كُلَّما أحنيْنا على الخشبِ ظهورَنا
مُثقلينَ بهم
.أجنحةً دونَ وظيفة
5
.لا غربةَ أشدَّ من أصواتِهِمْ في النزاع
شرودُنا
إذ يزحفُ نحوَ عزلتِهِ
يُطمئنُ فئرانًا تقضمُ حوافَّ النومِ
بأسنانٍ حادَّةٍ
كأصواتِهِمْ
ولأنَّ أعضاءَنا ناقصةٌ
.سيئنُّ الخشبُ في المفاصل
6
من الدخانِ
نُولَدُ
وليسَ من أرحامِ الأمهاتِ
كما أوهمتْنا العائلةُ صغارًا
لكنَّ المرايا التي تعكسُ كؤوسًا متكرِّرةً بينَ الأصابع
ضلَّلَتْ رؤوسَنا
.تلكَ المثقلة بفاكهةٍ حامضة
7
هذا الدمعُ المنسكبُ في تراب
غيرُ قادرٍ على إعادةِ الروحِ لخلايا الكلوروفيل الميِّتةِ في أوراقٍ
لم تنجُ من حريقٍ أشعلناهُ
بأعقابِ السجائر
بغروبٍ تركناهُ وحيدًا وراءَنا
دونَ قصدٍ
دونَ درايةٍ بما يعنيهِ الجحيمُ آنذاك
.ولم تغفرْهُ لنا الغابةُ-الأمّ
وإلاَّ بماذا تفسِّرونَ تعثُّرَنا
بجذورٍ قاتمةٍ
وظلالٍ تتمايلُ
كُلَّما خَطَوْنا؟
8
مغروسونَ في الحرمانِ
حتَّى أعناقِنا المتغضِّنة
ولا لذَّةَ
تحفُّ العروقَ
غير َهواءٍ قليلٍ
.تُسَرِّبُهُ الأجنحةُ العابرةُ لذبولِنا
لم نَكْبُرْ
إنَّما المدرسةُ هي التي صَغُرَتْ
بسياجِها المطوِّقِ لبراءتِنا
وأشجارِ السَّرْوِ
.والباصات
.ما كانَ لنا أن نتبعَ خطوَنا على النار
.ما كانَ لأيدينا أن تمتدَّ لتلكَ الكؤوس
9
لن نألفَ الضغينةَ التي تجمعُنا
وأقدامُنا المثبَّتةُ في دائرةٍ
لن تطأ هذه العتمةَ ثانيةً
رُبَّما، بعدَ أيامٍ قليلةٍ
نعودُ بلا شمسٍ إلى المقهى
.بلا عصافير على الحواف
10
مُعَبَّأةٌ بدخانٍ يُبدِّلُ هيئتَهُ
من جبلٍ إلى تمساح
تحدِّقُ في عزلتِنا
في مللٍ يبادلُنا ورقَ الكوتشينة
وعلبةَ الكبريت
فيما الذينَ صلبوا طاقتَنا على خشبِ النماذج
يقتلعونَ الأحلامَ التي لم تنضج
بمناجل تلمعُ
دونَ أن يغيِّروا ثيابَهُمْ
يهشِّمونَ حيواتِنا
بمدنِها الصغيرةِ
.ومقاهيها المبتلَّةِ على أرصفةٍ تتآكل
أطفالُها الذاهبونَ إلى المدرسةِ شاحبون
كما لو أنَّ قلوبَهُمْ تفحَّمَتْ في الليلِ
.لتلائمَ البيوتَ التي يعلو بعواميدها الصراخ
11
من السقفِ الذي تسندُهُ يدُ التثاؤب
لئلاَّ يهبطَ الكابوسُ المتكرِّرُ
كعنكبوتٍ
,متشابكًا بأصواتٍ تخفتُ
.تتدلَّى حبالٌ دونَ جثث
نغلقُ أهدابَنا
كما في الموتِ
كما في دخولِنا هذه الحجرة السوداء
حيثُ وسادةٌ فقدتِ النومَ
وخزانةٌ عاريةٌ
وكرسيٌّ يجلسُ في ركنٍ
.مأخوذًا بجدارٍ خامس
نعلِّقُ الشمسَ
لحظةً تعبرُ الرتابةَ دونَ مطرٍ
أو أشجارٍ
أو حيواناتٍ أليفةٍ تلعبُ معنا
مؤرجحينَ أوهامِنا على عتباتِهِمْ
صانعينَ في كُلِّ مرَّةٍ تشكيلاً مختلفًا
تحملُنا الدهشةُ التي يُلقيها
إلى ذروةِ اللذَّةِ
.لتقذفَنا فجأةً في الضجر
.الساعةُ لا تشيرُ إلى زمن
.لا ساعةَ على الجدارِ أصلاً
.فقطْ حيواناتُ قِماشٍ على الموكيت الأبيض
.هكذا، أوهمْنا السقفَ أنَّنا بلا ماضٍ
12
كُلٌّ منَّا حائطٌ
وظِلٌّ
ولوحةٌ خاصَّةٌ بحالتِهِ
يشردُ بينَ زواياها طويلاً
كأنَّ المَرْسَمَ الكامنَ في مدينةٍ لم يمر بها قطارُنا
كانَ يطلُّ علينا
.تحتَ شجرةٍ لوَّثْنا رئتيها بالسجائر
13
العازفُ الذي يستخدمُ عُلْبَةَ غيتارِهِ تابوتًا
سيقفزُ من بابِ القطارِ فجأةً
ترافقُهُ آلتُهُ الموسيقيَّةُ
.وأصواتُنا
كعادتِنا
سنهزأ بالأمرِ
.ونستمرُّ في الضحكِ والتدخين
لكنَّنا في عودتِنا من مدينةِ الملاهي
سنتذكَّرُهُ
.ونتتبَّعُ صدأ دمعاتِهِ على القضبانِ الحديديَّة
14
الهيكلُ العظميُّ في مختبرِ المدرسة
بالقبَّعةِ السوداء
نحمي جمجمتَهُ من حرارةِ اللمبةِ الفوسفوريَّة
من تسرُّبِ جنونِنا إليها
وبشيءٍ من الرهبةِ
نفتحُ الفكَّينِ المثقلينِ بالصمتِ
مُثبِّتينَ سيجارةً مُشْتَعِلَةً
لن يتذوَّقَ تبغَها
ولأنَّ طاقتَنا لا تحتملُ فكرةَ الموتِ
نُدْخِلُ سمَّاعتينِ مكانَ أذُنيهِ
ونهزُّ عظامَهُ
.مُعانقينَ عجزَهُ عن الرقصِ معنا
15
رؤوسُنا للفراغ
لطيورٍ عملاقةٍ لا تمنحُ العظامَ ريشَها
لإلهٍ صغيرٍ
ألبسناهُ معطفَ دموعِنا
.كي تصدأ في الأرواحِ المشوَّهةِ مساميرُه
بعيدًا عن أجسادِنا المُعْتَلَّةِ
بهشاشةٍ يدركُها الحطَّابونَ
وينتهزونَها فرصةً لاغتصابِنا
.يُصْنَعُ الأثاثُ وتُحْكَمُ التوابيت
من جلدِنا الورقُ
.وقصائدُ المدرسةِ والمقاهي
.نحنُ الصناديقُ والموتى بداخلها
ما يُؤَرِّقُ الغاباتِ في رؤوسِنا
كُلَّما اختبأنا-
تحتَ ملاءاتٍ ناصعةٍ
-كأسنانِ أطفالٍ مُبْتَسِمِين
افتقادُ خشبِ الأسرَّةِ لجذورِنا
أو تسرُّبُ أنفاسِنا المخمورةِ
.من شقوقٍ صغيرةٍ في إطاراتِ النوافذ
16
ما الغرابةُ
أيُّها الأصدقاء
في عصفورٍ
يعبرُ غيمةً
في سقفِ الحانةِ
ويصطدمُ بشبيهٍ
في لمعانِ المرآة؟
ما عنصرُ المفاجأةِ
في تفكُّكِ جَمْعَتِنا
وتَحَلُّلِ الشموسِ المدلاَّةِ من الأعناق
إلى سوائل حامضة
تُفْسِدُ قمصانَنا المربَّعةَ
وتُخْمِدُ سعالاً متقطِّعًا في صدورِنا؟
كُنَّا على يقينٍ
أنَّ أرصفةً متصدِّعةً كرؤوسِنا ستنبذُنا
دونَ رفاقٍ أو موسيقى
.و أنَّ أسنانَنا سيحرثُها الضحك
17
دائمًا في أمكنةٍ ضيِّقةٍ
.تُعيقُ رفرفةَ أذرعتِنا
على ظهورِ المقاعد
نسندُ تقوُّسًا وراثيًّا
.ضاعَفَتْ درجتَهُ حقائبُ المدرسةِ والسفر
ندخِّنُ الهزائمَ بشراهةٍ عضويَّةٍ
أحيانًا، نميلُ برؤوسِنا إلى الوراء
.لعلَّ الصداعَ يسقطُ بالوساوس
الأسودُ الحادُّ
وحشةٌ على الجدران
دونَ لوحاتٍ
.دونَ ظلالٍ تمرّ
لأطفالِنا الميِّتين
خِفَّةُ الملائكةِ في الأحضان
لَهُمْ جلدٌ في حنانٍ مزرقٍّ
وعيونٌ منمنمةٌ أليفةٌ
.تحدِّقُ في فجيعتِنا ولا ترانا
18
لن يصحبَنا أحدٌ إلى تلكَ الحجراتِ المخنوقةِ المتربة، حيثُ لا مفاتيحَ ضوءٍ ولا نوافذَ نواربُها. ستكونُ الأمهاتُ مشغولاتٍ بإخوتِنا، أشباهًا جارحينَ كحوافِّ المرايا. سيذرفنَ الحسرةَ دونَ انتباهٍ في الأواني، ليكونَ طعامُ العائلةِ مالحًا، مُرًّا، كالترابِ في أفواهِنا، كُلَّما ابتسمْنا لملاكٍ يعبرُ عتمتَنا ويتوارى. أمَّا الأصدقاء، فلا بُدَّ أنَّهم سيعونَ فكرةَ الموتِ مبكرًا ويرتبكونَ تجاهَ التعلُّقِ والفقد. رُبَّما يتركونَ لنا بعضَ ورداتٍ على عتباتِ أبوابٍ لن تُفْتَح. سنذهبُ وحيدينَ إذًا، ترافقُنا الأجسادُ لحينٍ، ثُمَّ تُنْسَلُ ببطءٍ خيوطًا لا تلحظُها الستائر، تمامًا كالأرواحِ التي غادرتْنا.
19
.كانَ الحنانُ أوّلَ من سقطَ منَّا
.كانَ الليلُ أطولَ من أذرعتِنا في العناق
يداك في فراغٍ
.والاستحواذُ كامنٌ في كمائنِ الاحتواء
لم تكن تلكَ المحبةُ خالصةً
المرآةُ لم تكشفْ لي أوراقًا
شجرةٌ هَوَتْ في شارعِك
.أخرجَتْني من وهمِ الغابة
هل كانَ حِضْنُكَ حقيقيًّا؟
هل أسندتُ رأسي -فعلاً- على روحٍ تنتفضُ عبرَ أنفاسِها؟
.لا أذكرُ من الحجرة ِسوى نافذةٍ بحجمِ البحرِ أغرتْني بانتحارٍ أجَّلْتُهُ لحينَ فقدانِك
.ذلكَ العطرُ ما زالَ عالقًا بالخيوطِ التي قطعتُها، ملاكًا مشنوقًا من جناحيْه
ظلُّ الطائرةِ الورقيَّةِ لا يغادرُ مساحةَ طفولتي
رغمَ أنّني أفلتُّها
.وبترتُ أصابعَ اليدِ الواحدةِ التي كنتُ أحصي بها أصدقائي
20
كنافذةٍ ملوَّنةٍ في لوحة
قِطٌّ
على حافَّتِها
رغبتُهُ صفراء
أطلُّ
ورؤوسُ الصغارِ
على غيمةٍ خشنة
.تجرحُ الأجنحةَ في عبورِها
لا معطفَ
أدسُّ في جيبِهِ وردتي
لا خواتمَ
.لا عازفَ كمانٍ على سطحِ البيتِ المجاور
.برجٌ منتصبٌ كشجرةٍ معدنيَّة
.بناياتٌ مبعثرةٌ، مطفأة
رغمَ هندسةِ الحنانِ في مُكَعَّباتِ السُّكَّر
أتفكَّكُ
عن خلفيَّةِ الرموزِ وأطفالِ الورق
عن الزجاجِ المغبرِّ في سنواتٍ دهسَتْ براءتي
مثلَ شاحناتٍ ثقيلةٍ
قوَّسَتْ جسورَ الليلِ
."بما أسمِّيهِ الآنَ "الوعي
21
.لن أذرفَ أقنعتي على الطاولةِ أمامهم
سأدلقُ براميلَ من الألوانِ والبيرة
مُوهِمَةً أصدقائي بالبهجة
.غناءً خلفَ أبوابِ الحمَّامات
من الخيوطِ و القصاصاتِ
-إذ لم أمتلك الأحجارَ في تدحرُجِها-
.سأصنعُ المشانقَ والميِّتين
لشموسٍ عديدةٍ
بستارتي لَوَّحْتُ
لراحلين
خلَّفوا سجائرَهُمْ في المنافض
.تَفْنَى من تلقاءِ نفسِها
كُلُّ ما كانَ لي
تركتُهُ على الحبالِ
القمصانُ
وتلكَ الجثثُ المزرقَّةُ
كأظفاري
كسماءٍ في الحقدِ
تمطرُ الغابةَ
.بضحكٍ حامضٍ وخذلان
كُلُّ ما حلمتُ به
خذلني
وكأنَّ قدميَّ الصغيرتينِ
.مخلوقتانِ للانزلاق
22
كجذعٍ هجرتْهُ العصافيرُ
أقفُ وحدي
أكسرُ حدَّةَ الفراغِ
بقامةٍ ضئيلةٍ
وأصدُّ الرياحَ المنهكةَ
عن ظلٍّ يتطايرُ
.ولا يلامسُ أطرافَ المطر
:كُلَّما قطعتُهُ التأم
الشريانُ الذي يَصِلُ خياناتِهِمْ بدمي
وهذه الديدانُ
كُلَّما هَوَتْ
متخمةً بفاكهتي
أعدتُها إلى الجُرْحِ
.يدًا تجدِّدُ خلايا عزلتِها
بمفتاحينِ ذهبيِّي
-هُما كُلُّ ما تبقَّى منهما-
أغلقُ عينيَّ
على الفقرِ في العلاقة
على هذيانِ المرتعدينَ من أنفاسِهِمْ
لعلِّي في الوقتِ الذي على هيئةِ نهرٍ
أسقطُ
.خشبًا على خديعة
23
.شبحًا، أخترقُ الجدار
أستلقي على آلامِ ظهري
شاردةً في السقفِ الشاهقِ
.كصرخةِ جبل
جُثَّتي مُدَلاَّةٌ
تتأرجحُ بينَ ظلالِهِمْ
طائرةً من الورقِ المقوَّى
عَلِقَتْ بجسرٍ أحدبٍ
يعبرُهُ الصبيةُ العائدونَ من مدارسِهِمْ
يجمعونَ عصافيرَ ميِّتةَ في الطرقات
يتبادلونَ الأجنحةَ
حالمينَ بفضاءٍ أكثرَ اتِّساعًا
وآباءٍ أقلَّ قسوةً
خشيةً من تآكلِ الأبوابِ
.بأحقادِ البكتيريا
قلبي فَرْدٌ
آنيةُ دمعٍ خاويةٌ
إلاَّ من عفونةِ الأزهارِ المتحلِّلةِ إلى حشراتٍ
.تتنامى على غُبارِ الكومودينو الأسود
24
بأيَّةِ يدٍ أقْفِلُ النافذة َعلى المشهد؟
.صناديقُ الموتى تزحمُ حجرتي
الأمُّ تهمسُ لعشيقِها بأسرار ِالعائلة
،صوتُها الخؤونُ يقودُني على أسلاكٍ مكشوفةٍ
وهذه الجرذانُ في الزوايا متربِّصةٌ
.تتغذَّى على ما ترسَّبَ في الدمِ من أقراصٍ مهدِّئة
.مسَّني جنون
أصابعُ المهرِّجينَ في خواتمِ الدخانِ
والحسرةُ شجرةٌ محنتُها الفقدُ
.تحدِّقُ في حذائها
هل يستمرُّ الأطفالُ الملوَّنونَ طويلاً على بياضِ الحوائط؟
من دلَّ أقدامَهُمْ على طريقٍ سلكَتْهُ الراقصةُ بعدَهُمْ؟
وكيفَ استطاعوا أن يتسلَّلوا إلى الكوابيس
دونَ أن يرجِّفوا الظلّ؟
وحيدونَ في حضنِها
رغمَ تداخلِ الأعضاءِ والشوارع
يُعانقونَ دميةً تُشْبِهُها ولا تُبادِلُهُمْ القُبَل
ولأنَّ السلالمَ لا تصعدُ
يتسلَّقونَ آثامَهُمْ
عتمةً ثنائيةَ الجنسِ
.وردًا عائمًا يرافقُ انجرافَ الجثَّة
ربما يكونُ الإدراكُ قد أتلفَ تعدُّدي
فلا أستمتعُ بالصخبِ والكؤوسِ ثابتةً
.ولا أقوى على تحمُّلِ حناني
.شخوصٌ يتكاثرونَ حولَ السرير
.يُعْتِمونَ في الغيبوبةِ مساحةَ الركض
بطلقةٍ واحدةٍ
يمكنني التخلُّصَ من كُلِّ هذه الأشباحِ في الرأس
.في أنفاسِ حجرةٍ تضيقُ وتتّسع
25
.عَبَرْت
.رأيتُ غابةً هادرة
.أعرفُ الوجوه
.لا أذكرُ أسماءَها
.ليسَ الأزرقُ لونًا أو سماءً أو بحرًا
.الأزرقُ لوحةُ طفولتي
،الأزرقُ عصفورٌ بلا شجرة
.أسماكٌ في العينين، في الرئتين، في العروق
رأيتُ قصيدتي تُغادرُني
،كالمكان)
(كمُرَبَّعاتِ الإسمنتِ والمقاعد
روحًا تحلِّقُ فوقَ الجثَّةِ
.ثُمَّ تتَّجهُ نحوَ النفق
.إنَّني الآن على الجانب الآخر
.عبرتُ حياتي حيثُ لا شيء، لا أحد، سوى هذا الفراغ الأسود
.ما من أحدٍ مغلق
26
الشوارعُ ذاتُها
بالأسماءِ التي تحملُها منذُ قرونٍ
بأشجارِها العاريةِ
.عروقًا في أعضاءِ الفراغ
عناوينُنا فقطْ
.هي التي تغيَّرَتْ
أمشي
ظلِّي آخرٌ
شأنَ أفرادِ العائلةِ
.مثلَ أصدقائي
ثمّةَ عصافيرُ من الغليسرين تنهمرُ
مطرًا خادعًا
رغمَ تدفُّقِهِ
.كالحنانِ الذي في قسوتك
27
.ليست هذه مدينتي، أعلم
الخواءُ ضيِّقٌ، ما من رفاقٍ في هذا البلدِ البعيدِ يوسِّعونَ الروحَ
.والأمكنة
أكثرَ وحدةً من جُثَّةٍ لم تألفْ عتمتَها بعد
الذينَ أخمدوا صرختي بترابٍ
.عادوا إلى منازلهم
في انتظارِهِ
.سريرٌ وامرأة
أدخِّنُ الفقدَ
رئتينِ متفحِّمتينِ تنتفضانِ بسُعالك
كي أصنعَ غيمًا يؤنسُ ظلّي
.وأجعلَ من السقفِ سماءً صغيرة
28
من أطفأَ الأباجورةَ العاليةَ في غرفتي؟
.لا بُدَّ أنَّ شبحًا يقيمُ حيثُ كانَ لي في الزاويةِ سرير
.ثمَّةَ يدٌ مجهولةٌ نزعتْ صورةَ المغنِّي عن جدارِها، وألقَتْ بخشبِ غيتارِهِ في المدفأة
.الستارةُ في الطابقِ الثالثِ من العتمةِ والريحِ تلوِّح
لعلَّها لمحَتْ يدي المعلَّقةَ في خواءٍ
.غيمةً بلا خواتم
29
الشجرةُ التي حدَّثتني عنها مرارًا
التي تُسْقِطُ أوراقَها الصفراء
كمن ينفضُ عن معطفِهِ بعضَ الغُبار
.لم تَعُدْ أمِّي
.ما عادَ الطائرُ الأزرقُ الذي تطوِّقُهُ بذراعيها يأمنُ مزاجَ حنانِها
30
هكذا أعودُ
في ساعةٍ متأخِّرةٍ من التعب
.لعلَّ الجمرَ الذي في الأعضاءِ يستحيلُ رمادًا
.أخرجُ عن سياقِ الكؤوسِ والأصدقاء
.أغادرُ الضحكَ مكانًا لا يتَّسِعُ لانسكابي
.أتبعُ الوقتَ الذي مرَّ كغريبٍ تحتَ النافذة
.لم يَعُدْ في القسوةِ ما يُدْهِش
يدي اعتادَتْ سقوطَ خواتمها
وأشباحَ المحبَّةِ
خارجةً من المناديل
.حينَ ألوِّح
هكذا
عبرَ البياضِ في أكفانٍ مرصوصةٍ خلفَ البابِ
...توطَّدَتْ علاقةُ الأصابعِ بالفراغ
.أطفالي نائمونَ في الورق
توسَّدوا الألوانَ
.ناموا
.مُحْكَمٌ بيننا الزجاجُ، لئلاَّ توقظَ أحدَهُمْ خشونةُ سعالي
.أستلقي على السريرِ الأَرِقِ بثيابي
.علبةُ السجائر في مكانِها والهاتفُ المنسيّ
أفكِّرُ في النُدْبِ الذي في خدِّها الأيمن. تلكَ المرأةُ الغامضةُ لم تُسْقِطْ كُلَّ جلودِها. ليست عاهرةً، كما صوَّرَتْ لنا ملابسُها الفاضحةُ أحيانًا وتعدُّدُ لهجاتِها. ولا أعتقدُ أنَّ المقهى المهدومَ .سيعودُ إلى ما كانَ عليهِ: قشُّ السقفِ والجدران، الحبالُ الملوَّنةُ، وتلكَ الجَمْعَةُ المفكَّكةُ رغمَ الجلساتِ التي توحِّدُنا وغابةِ النراجيل.
.أُغْمِض
.ما عادَ ممكنًا أن أستعيدَها أمًّا ليتمي
.حِضْنُها مغلقٌ. ما من مفتاحٍ للبوَّابةِ التي تخذلُ ظلِّي كُلَّما اقتربْت
31
تحتَ مطرٍ من شجرٍ في السماءِ
سأقفُ
جذعًا ميِّتًا
نحتَتْهُ
-ليصيرَ أنا-
ريحٌ
.في خشبِهِ، نفخَتْ روحَها
سيَّاراتٌ قليلةٌ ستعبرني
في ظلِّي، سيدخِّنُ صغارُ المدرسةِ
كما كُنَّا نفعلُ في الماضي تمامًا)
تحتَ تلكَ الشجرةِ الكبيرةِ
قُرْبَ البوَّابةِ الرئيسيةِ
.(والسورِ الأحمر
سأنصتُ لارتطامِ الطيورِ
على المعطفِ البلاستيكيّ
والأسفلتِ الموحش
حتَّى تُفقِدني أحماضُ الملائكةِ وجهي
ويدي
.والأرضَ التي لم تعرف بعدَ الغيابِ حذائي
32
البابُ المعدنيُّ الأخضرُ
ذو القضبانِ العديدةِ والحارسِ الأوحد
الذي كُنَّا ندخلُهُ في الصباحِ ركضًا والحقائبُ الصغيرةُ تقفزُ على ظهورِنا مثلَ ضفادع تبعتْنا من النهرِ البعيدِ
.البابُ -عتبةُ الجنَّةِ في الخروج- مغلقٌ على طفولتِنا
.يدي تحثُّني على ملامسةِ حديدٍ مبتلّ
.لا أجرؤ
33
:على الرصيفِ المقابلِ، شبحُ ذلكَ المقهى. دوريٌّ على كتفِهِ الأيمن يحدِّقُ في ظلِّي. غبارُ السنواتِ بيننا. مِنْهُ، يولدُ المكانُ ثانيةً، وتحلِّقُ عصافيرُهُ بذاكرتي البابُ الخشبيُّ الخشنُ، المتأرجحُ الستارةِ بينَ صقيعِ الشارعِ العموميّ والدخان. الطاولاتُ المستطيلةُ ذاتَ المنافض والفناجين والصحون والأيدي. الكراسي التي قوَّسَتْ ظهورَنا. الجدرانُ الصفراءُ كأسنانِنا. النادلةُ الطيّبةُ التي تعرفُنا أكثرَ من أمّهاتِنا. النافذةُ الكبيرةُ التي يتسلّلُ منها الهواءُ الباردُ وضوءٌ يُشْبِهُهُ وتلكَ العصافير الرماديَّة، هذه التي تحلِّقُ برأسي الآن.
.مروة، عالية، منى، أنا: أربعةُ حوائط هُدِمَتْ في مثلِ هذا المطر
.السقفُ موتٌ ملوَّنٌ، معلَّقٌ في الخواءِ، يظلِّلُ رأسَ الشبحِ ودهشةَ الدوريّ على الرصيفِ المقابل
34
تحتَ هذا المطر المتساقط من الأعالي
سأقفُ
جذعًا يقلُّ
.وحلاً تتكاثرُ فيه أعقاب السجائر
.لن يفتحَ البابَ الحطَّابُ الذي قطَّعَ أعضائي
لن تحطَّ على كتفي
لن تدركني
في هذا المكانِ القديمِ
.شمسُ الأصدقاء
35
.أرجِّحُ الاحتمالاتِ الطيِّبةَ لِكُلِّ السوءِ الذي حَدَث
المحبَّةُ خدعةٌ
والحنانُ مشبوهٌ
.لكنَّني -رغمَ حِدَّةِ الألم- سأستمرُّ في تصديقِ ما لا أراه